للتأكد مما ورد في استهلالنا، علينا الرجوع بالذاكرة إلى نهاية 2008 ومطلع 2009 عندما تعرّضت غزّة لاعتداءات وحشية من قوات المحتل الإسرائيلي خلال نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2008 ويناير/كانون الثاني 2009.
وقد اعتبر المراقبون آنذاك تلك الاعتداءات بأنها أكثر من كونها مجرد جولة من جولات الصراع العربي الإسرائيلي، إذ وصفوا ما جرى بمحاولة لتفكيك القضية الفلسطينية ذاتها، ومرّ ما جرى دون حساب وتكرّرت الاعتداءات البربرية بشكل دوري حتى "طوفان الأقصى" الذي مثّل نقطة تحوّل فارقة.
بلغة أخرى لماذا لم يحظَ اعتداء 2008 وما تلاه من اعتداءات بمثل ما حظي به "طوفان الأقصى" من ردود أفعال؟.. للإجابة عن ذلك نقول:
أولًا: إنّ السياق الإقليمي كان يتمتّع بحد أدنى من التماسك.
ثانيًا: كما أنّ السياق الدولي كان يسوده قدر من التعاون بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتواصل بين الصين وأمريكيا، وبين روسيا وأوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا.. إلخ. واللافت للنظر، في هذا الإطار، أنّ إدارة باراك أوباما الديمقراطية، وقتئذٍ، تبنّت سياسة حيال الشرق الأوسط ساعية إلى حسم القضية وعدم التسويف في حلّها. وإن كانت هناك ضرورة لاستخدام القوة فيجب أن يكون هناك ما يبرّرها أمام الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، على أساس وضع الطرف الفلسطيني أمام سؤال: هل تريد السلام أم لا؟.
ثالثًا: لم تكن المقاومة بمثل ما أصبحت عليه اليوم.
نعيش بداية زمن جديد قيد التشكّل تحظى فيه المقاومة بمدد عابر للقارات
في المقابل، فإننا نرى اليوم:
أولًا: المقاومة قادرة على المبادرة وإلحاق الخسائر النوعية بالمحتل الإسرائيلي، كما أنّ خطابها قد توجّه إلى أحرار العالم طلبًا للدعم الإنساني الكوكبي الذي يتجاوز الدين والمذهب والقومية وهو ما يجب الحرص عليه.
ثانيًا: تحوّلات نوعية في الإقليم وسّعت من المؤيدين للفلسطينيين وإن كان ذلك قد جاء على حساب النظام الإقليمي العربي. إلا أنّ عزاءنا في أنّ الشارع العربي لم يزل وفيًا للقضية الفلسطينية، كما أنّ جيل الشباب الذي غُيّبت القضية عنه - عمدًا - قد بدا مدركًا أهميتها.
ثالثًا: حدوث تحوّلات جذرية في المنظومة الدولية نتج عنها فرز حاد بين الدول الكبرى ما ساهم في خلق حلفاء يقاومون التعنّت الغربي الأطلسي وهو ما يجب تعظيم استثماره. ولعل متابعة دينامية التصويت في مجلس الأمن خلال الثلاثة أشهر الماضية سوف تعكس التنسيق الروسي الصيني فيما يتعلّق بالصراع الدائر في المنطقة.
وتشير التحوّلات النوعية السابقة فيما يتعلق بالمقاومة، والسياق الإقليمي، والسياق الدولي، إلى أننا نعيش بداية زمن جديد قيد التشكّل، زمن تحظى فيه المقاومة بمدد عابر للقارات من كتل مواطنية جماهيرية تمارس احتجاجات من أجل تحرير فلسطين كجزء من احتجاج أشمل يشير إلى إفلاس نخب ومؤسسات وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم عليها أن تتعاطى مع القضية الفلسطينية والقضايا الأخرى بنظرة طازجة.
الاستعداد برؤى وتصوّرات وأفكار جديدة تليق بنضالات الشعب الفلسطيني وتصب في صالح المواطنين العرب لا النخب الثروية
كذلك إنّ ما يجري من صراع "أوليجاركي" محموم بين القوى الكبرى القديمة والمستجدة وحلفائهم الإقليميين في أوكرانيا وقبلها سوريا، على سبيل المثال، والآن غزّة، يقول إنّ، أولًا: ارتدادًا تاريخيًا قد لحق بالمنظومة الدولية والنظام الاقتصادي العالمي، وثانيًا: عطبًا قد أصاب شرعية "وستفاليا" (معاهدة تمّت سنة 1648 أنهت حرب الثلاثين سنة في أوروبا وأسًست للنظام الدولي القائم)، وثالثًا: تحوّلًا بنيويًا يعيشه العالم اليوم؛ ما سيؤثر على الكوكب ومواطنيه في الخمسين سنة القادمة في نظر الكثيرين.
في هذا السياق، لن يستقيم الحديث عن "اليوم التالي" فيما يتعلّق بالصراع العربي الإسرائيلي ما لم ندرك أنّ الحرب الدائرة الآن تؤسس - إلى جانب ما يحدث في أوكرانيا - لزمن عالمي جديد يؤسّس لبنية دولية جديدة واقتصادية جديدة لخمسين سنة تالية على أقل تقدير. ما يستدعي الاستعداد برؤى وتصوّرات وأفكار جديدة تليق بنضالات الشعب الفلسطيني، وتواكب الزمن الجديد، وتصب في صالح المواطنين العرب لا النخب الثروية.
(خاص "عروبة 22")