تشهد بعض الاقتصادات العربية، خصوصًا في دول "مجلس التعاون الخليجي"، طفرةً غير مسبوقةٍ في الاقتصاد الرقمي، إذ تُشير التقديرات إلى أنّ قيمة هذا الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستبلغ 200 مليار دولار عام 2025، بعدما سجّلت 91 مليارًا عام 2021، أي بمعدل نموّ سنوي مركّب يقارب 19 في المئة. هذه الطفرة تعكس تغيّرًا جوهريًا في سلوك المستهلكين، إذ أصبحت القنوات الرقمية مسؤولةً عن أكثر من 11 في المئة من الإنفاق الخاص في المنطقة.
أحد أبرز ملامح هذه الطفرة هو صعود "التجارة السريعة" (Quick Commerce)، المتوقع أن تصل إلى 6.1 مليارات دولار عام 2025، مستحوذةً على أكثر من 10 في المئة من سوق التجزئة الإلكترونية، بعدما بلغت ثمانية في المئة فقط عام 2023. والمُثير أنّ نموّ هذا القطاع لم يعد مقتصرًا على البقالة، بل امتدّ إلى مجالات الجمال والعناية الشخصية، والعقاقير، والإلكترونيات، والأزياء، ما يجعل سرعة التسليم ميزةً تنافسيةً حاسمة.
انتقلت المنصات الرّقمية من التركيز على زيادة عدد المستخدِمين إلى تعزيز إنفاق العميل الواحد
في موازاة ذلك، برزت الشركات التكنولوجية الناشئة كمحرّكٍ مهمٍّ لأسواق المال، إذ يُتوقَّع أن يشهد عام 2025 نحو 10 اكتتابات عامّة أوليّة (Initial Public Offerings) لشركاتٍ رقميةٍ في المنطقة، وهو رقم قياسي مقارنةً بالسنوات الماضية. واللّافت أنّ 32 في المئة من عوائد الاكتتابات عام 2024 جاءت من شركاتٍ رقميةٍ، في إشارةٍ إلى التحوّل الهيكلي في طبيعة الشركات الرائدة عربيّا.
تغيّر أيضًا نمط استهلاك الإعلام الرقمي، خصوصًا في المملكة العربية السعودية، حيث تشير دراساتٌ إلى أنّ 33 في المئة من وقت المستخدمين على المنصّات الرقمية سيُخصَّص للتعلّم عام 2025، مقارنةً بـ17 في المئة عام 2022. هذا التحوّل، الذي يقوده "الجيل إكس" (المولودون ما بين الستينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين) بنسبة 63 في المئة، يعكس وعيًا متزايدًا بقيمة المعرفة في التنمية المهنية والشخصية، وهو ما يوازي ما شهدته كوريا الجنوبية في العقد الماضي من الزمن حين أصبحت المنصّات التعليمية الرقمية جزءًا من الثقافة اليومية.
تعاني دول عربية من ضعف البنية التحتية وشحّ الاستثمارات ما يحدّ من قدرتها على اللحاق بركب الثورة الرقمية
وفي تحوّل استراتيجيّ، انتقلت المنصات الرّقمية من التركيز على زيادة عدد المستخدِمين إلى تعزيز إنفاق العميل الواحد، عبر نماذج الاشتراك. ووفق التقديرات، سيتجاوز عدد الاشتراكات الرقمية في المنطقة عدد المستخدمين النشطين بحلول نهاية عام 2025، مع متوسّط أربع اشتراكات للفرد في أسواق ناضجة مثل سوق دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو معدّل مماثل لمعدّل الولايات المتحدة، في مقابل معدّل اختراق لا يتجاوز 60 في المئة في بقية الدول العربية.
وعلى عكس ما تشهده بعض الاقتصادات العالمية، كانت الحكومات في الكثير من الدول العربية المحرّك الرئيس للتحوّل الرقمي. فقد وصلت رقمنة الخدمات الحكومية في الإمارات إلى 99.5 في المئة بحلول عام 2023، بينما أطلقت السعودية حلولًا متقدمةً في المدفوعات الرقمية والمصارف المفتوحة (Open Banks)، ما ساعدها على أن تصبح مركزًا إقليميًا للتجارة العابرة للحدود.
الوصول إلى فرص العمل والتعليم والخدمات رهنٌ بالمستوى الرقمي لكلّ دولة
لكنّ هذه المؤشرات الإيجابية تخفي تحدّيًا واضحًا: الفجوة بين الدول المتقدمة رقميًا وتلك التي لا تزال في مراحلها الأولى. ففي حين تُحقّق دول مثل الإمارات والسعودية ومملكة البحرين نسب انتشار للإنترنت تتجاوز 95 في المئة، تعاني دول عربية أخرى من ضعف البنية التحتية وشحّ الاستثمارات، ما يحدّ من قدرتها على اللحاق بركب الثورة الرقمية. ووفق مؤشّرات الاتحاد الدولي للاتصالات، ثمّة فجوة تصل أحيانًا إلى أكثر من 40 نقطة مئوية في انتشار الإنترنت بين الدول العربية الأعلى والأدنى أداء.
هذا التفاوت لا يهدّد فقط فرص النموّ الاقتصادي، بل يمكن أن يُفاقم التفاوتات الاجتماعية، إذ يصبح الوصول إلى فرص العمل والتعليم والخدمات رهنًا بالمستوى الرقمي لكلّ دولة، وهو تحدٍّ يجعل التحرّك لسدّ هذه الفجوة ضرورةً استراتيجيةً، وليس مجرّد خيار تنمويّ.
(خاص "عروبة 22")