الأمن الغذائي والمائي

أخطاء شراء القمح والحبوب من البورصة!

عملتُ لفترةٍ من حياتي مستشارًا لوزير تموين أسبق في هيئة السلع التموينيّة، وهي الهيئة المسؤولة عن استيراد السلع التموينية كافّة، بخاصة تلك التي تُصرف كدعمٍ غذائيّ على بطاقات الفقراء من قمح لتصنيع الخبز والمكرونة وزيوت الطعام والسكر والشاي والبقول والدهون والشحوم الحيوانيّة. أُنشئت "هيئة السلع التموينية" بقرارٍ من رئيس الجمهورية الأسبق جمال عبد الناصر عام 1958، بغرض توفير الغذاء والسلع الاستراتيجية التي يحتاجها المواطن، سواء من السلع المُنتَجة محلّيًا أو بالاستيراد، ثمّ تبعتها هيئات مماثلة في الدول العربية سواء بالمسمّى نفسه أو كهيئات زراعية أو غذائية. ومنذ ذلك الحين، بدأت الهيئة المصرية شراء القمح من المزارعين ثم تستكمل احتياجات البلد بالاستيراد، خصوصًا من المناشئ السبعة الرئيسيّة وهي الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين وفرنسا وروسيا وأوكرانيا وأستراليا. وعادةً ما ينضمّ إليها مناشئ أخرى بشكل مؤقت، ولكنّها سرعان ما تخرج منها، بخاصة الهند ورومانيا وإنجلترا وكازاخستان وهي دولة مُغلقة بلا موانئ بحرية، ويتطلّب الاستيراد منها الشحن إلى دولٍ بحريةٍ مجاورةٍ ممّا يزيد من تكاليف الاستيراد.

أخطاء شراء القمح والحبوب من البورصة!

تتربّع مصر على قمّة الدول المستوردة للقمح منذ عام 2005 بحجمٍ حاليّ بلغ 12.5 مليون طنّ سنويًا طبقًا لبيانات بورصة شيكاغو للحبوب، ورابع أكبر مستورد عالمي للذرة الصفراء للأعلاف وبالحجم نفسه أي 12 مليون طنّ سنويًا، وخامس أكبر مستورد لزيوت الطعام وحبوب فول الصويا والأخيرة لتصنيع الأعلاف الحيوانية والسمكية والداجنة، وكذلك لدخول الكسبة الناتجة عن عصر الحبوب في مصنّعات اللحوم وبنسبٍ تصل إلى 50% من مكوّناتها لاحتوائها على نحو 40% من مكوّناتها من البروتين، ومعها أيضًا السكر والبقول والزبدة البقرية واللحوم الحمراء والألبان المجفّفة بنسبٍ تتراوح ما بين 20 و50%. ويمكن القول إنّ هذه النسب تنطبق أيضًا على البلدان العربية كافّة مع زيادةٍ في سلع الأرز والشعير وأحيانًا بعض صنوف الخضراوات والفاكهة.

تستطيع الدول العربية تأجيل الشراء إلى حين انخفاض الأسعار طالما امتلكت خبراء تحليل البيانات وحُسن قراءة الأسواق

حين بدأتُ العمل في هيئة السلع التموينية، وجدتُ هناك موظفًا يجلس أمام شاشة الوكالة العالمية التي تعلن أسعار القمح وباقي الحبوب في البورصة والتي تعاقدت معها الهيئة لهذا الأمر، وكلّ ما يقوم به هو متابعة الأسعار صاعدةً أو هابطةً ليقرّر بعدها الدخول للشراء الآن أو تأجيل الشراء إلى حين؟! أمّا لماذا ترتفع الأسعار ولماذا تنخفض فهذا أمر يفوق قدراتهم المُبرمجة منذ زمنٍ على متابعة الأسعار على الشاشة فقط! والحقيقة أنّ أسعار القمح والحبوب هو عِلم كبير ومتابعة مستمرة يتخلّلها بعض الأمور الطارئة. فأسعار القمح كأهمّ سلعة تستوردها البلدان العربية تتوقّف على ثلاثة أمور أساسية وهي:

- حجم إنتاج الدول الكبرى المصدّرة للقمح لأن بيدها تقليل المساحة المنزرعة إذا ما انخفضت الأسعار وتراجعت أرباحها وهي تجيد فعل ذلك من حين لآخر.

- الأمر الثاني هو المساحة المنزرعة وحجم الإنتاج في الدول المكتفية ذاتيًا، بخاصة الصين والهند كثيفة السكان والتي تضمّ ثلث سكان العالم، فدخول أي منهما كمشترٍ جديدٍ من البورصات العالمية يتسبّب بطفرةٍ في ارتفاع الأسعار خاصةً في السلع الاستراتيجية مثل القمح والذرة التي لا تقبل التأجيل في الشراء ويرتبط توافرها باستقرار الدول.

- الأمر الثالث هو المساحة المنزرعة وحجم الإنتاج المتوقّع في الدول المستوردة للقمح والحبوب، بخاصة كثيفة السكان. فإعلان مصر مثلًا كأكبر دولة مستوردة للقمح في العالم في الأوضاع الطبيعيّة ومعها البرازيل وإندونيسيا والجزائر والمغرب والعراق، وجميعها في قائمة الدول العشر الكبرى المستوردة للقمح، إعلان أيّ منها عن تقليص أو تراجع المساحات المنزرعة بالقمح والحبوب أو تراجع الإنتاجيّة فيها لأسباب مناخية أو إصابات مرضية أو حشرية، يعني زيادة كميّات القمح المطلوب استيرادها من هذه الدول، ممّا يُحدث طفرةً سعريةً بالارتفاع في الأسعار لزيادة الطلب على القمح والحبوب عن المعدّلات المعتادة.

ومن هذه العوامل الثلاثة، تستطيع الدول، خصوصًا الدول النامية الفقيرة والدول المستوردة الصافية للغذاء، كما هو الحال في الدول العربية، أن تتوقّع أسعار القمح والحبوب سنويًا وعلى فترات، وبالتالي تحدّد فترات الشراء ومعها تأجيل الشراء إلى حين انخفاض الأسعار لثقتها في تحليل البيانات بين وفرة المعروض عالميًا وتراجع أو زيادة الطلب على الشراء طالما امتلكت خبراء تحليل البيانات وحُسن قراءة الأسواق!.

الدول الكبرى المُصدّرة للقمح تستطيع التحكّم بالاستقرار الداخلي للدول المستوردة وأميركا تزرع القمح "كغذاء وسلاح"

الأمر الثاني هو تحديد أفضل الأوقات للشراء، وهو قبيل موسم حصاد المحصول الجديد للقمح مثلًا في شهرَي يونيو/حزيران ويوليو/تموز من كل عام، بحيث يجب على الدول المصدّرة التخلّص من مخزونها القديم من العام السابق لتوفير مساحات تخزينيّة للمحصول الجديد. كما أنّ معظم الدول المستوردة للقمح تشترط أن يكون الاستيراد من آخر محصول، وبالتالي بمجرّد وصول القمح الجديد إلى الصوامع والمخازن، فإنّ الدول المستوردة سترفض قمح العام الماضي، وتفقد معه الدول المصدّرة القمح القديم كقمح خبز أو مكرونة وتضطرّ إلى بيعه كقمح علفٍ بأسعار منخفضة. يُضاف إلى هذا أنّ بعض الدول ذات الخبرات القليلة من خبراء البورصات تدخل بغشامة إلى الدول الكبرى المُصدّرة للقمح وتطلب استيراد القمح بأسعار مميّزة ومنخفضة لكونها من أكبر الدول المستوردة له، وهو أمر مُضحك لأنّ هذا الأمر هو نقطة ضعف هذه الدول، وليس أبدًا نقطة قوّة، لأنّ الدول الكبرى المُصدّرة للقمح تستطيع التحكّم بالاستقرار الداخلي لهذه الدول بمنع تصدير القمح إليها. كما فعل الرئيس الأميركي ليندون جونسون حين هدّد مصر برئاسة جمال عبد الناصر بإيقاف تصدير القمح إليها، وعليه أن يتحمّل عدم الاستقرار الداخلي لهذا الأمر، وهو الذي كرّره وزير خارجية أميركا بعد ذلك هنري كيسنجر بالقول إن أميركا تزرع القمح "كغذاء وسلاح"!.

هناك أيضًا الدخول بلا خبرة، وإسناد الأمر إلى المبتدئين بالشراء الذين يذهبون إلى حكومات بعض الدول الكبرى المصدّرة للقمح ويطلبون شراء كميّات كبيرة من القمح والحصول على أسعارٍ مميّزةٍ، فتكون الصدمة بأنّ الحكومات لا تصدّر القمح أبدًا، ولكن المسؤول عن ذلك هو القطاع الخاص فقط وبالتالي يمكنكم الاتفاق معه وبالأسعار المعلنة في البورصة العالمية وقت الشحن وليس وقت التعاقد. كما أنّ أغلب أو جلّ الدول المُصدّرة للقمح لا تصدّر للحكومات أو لجهات عسكرية ويقتصر الأمر على الهيئات والقطاع الخاص وجميعها صدمات يتلقّاها البعض من غير أصحاب الخبرة في بورصات الحبوب العالمية.

علينا الشراء بالمعدّلات المعتادة من دون خوف أو اندفاع حتّى تعود الأسعار إلى معدّلاتها

وأخيرًا هناك بعض الأمور الطارئة التي ترفع الأسعار وأهمّها؛ ارتفاع أسعار البترول لارتباطه بأسعار شحن السفن التي تنقل القمح، وكذا ارتباطه بإنتاج الأسمدة والمبيدات التي تحتاجها زراعات القمح، وكذلك النقل الداخلي، ثمّ الصراعات والحروب بين الدول الكبرى المصدّرة للغذاء كما حدث في حرب روسيا وأوكرانيا. بينما انتشار الوباء العالمي كما حدث في كورونا، فقد يعمل على تراجع الأسعار لاهتمام الدول الفقيرة بتوفير الأمصال والمطهّرات والمستلزمات الطبية، وبالتالي اتجاهها إلى تقليل المخزون الاستراتيجي لديها من الحبوب إلى أقلّ كمية، ممّا يقلّل من الطلب على الحبوب ويؤدي إلى انخفاض أسعارها.

وأخيرًا، تندفع الدول الفقيرة عند ارتفاع أسعار القمح عالميًا إلى شراء كمياتٍ كبيرةٍ منه خوفًا من ارتفاع الأسعار فتتسبّب فعليًا في ارتفاع الأسعار، وهو ما تلعب عليه الدول الكبرى، لذا علينا التعامل بهدوء والشراء بالمعدّلات المعتادة من دون خوف أو اندفاع حتّى تعود الأسعار إلى معدّلاتها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن