وإذا كان نظام حكم الأئمة في الشمال قد ارتكز على التحالفات القبلية واتبع نظام الرهائن الذي بموجبه كان يتم إيداع أبناء زعماء القبائل لدى الإمام لضمان عدم تمرّد قبائلهم. فإنّ الاستعمار البريطاني في الجنوب دعم الزعامات القبلية على تكوين سلطانات ومشيخات بلغ عددها نحو 25 قبل أن يتمّ توحيدها في إطار دولة جمهورية اليمن الديمقراطية عقب الاستقلال.
وعقب قيام النظام الجمهوري في الشمال والجنوب ظلّ تأثير القبيلة واضحًا في الاستقرار السياسي من عدمه، وكانت الصراعات التي شهدتها الدولتين، قبل توحيدهما في العام 1990، تحمل في طياتها أبعادًا قبلية أو مناطقية، كما اعتمد الحكّام على هذه الانتماءات في الوصول إلى السلطة أو إزاحة منافسيهم، وامتدّ هذا التأثير عقب قيام الدولة الواحدة، حيث أدت التحالفات بين نظام حكم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي كان واجهة لحكم ونفوذ قبيلة حاشد تحديدًا، وأطراف أخرى في الجنوب كانت في الجهة المعارضة لنظام الحكم هناك، إلى اجتياح الجنوب والانتصار في حرب صيف 1994.
ومع خروج الرئيس صالح من الحكم في العام 2011 ضمن ما سُمّي بالربيع العربي، استفرد تحالف قبيلة حاشد مع حزب الإصلاح بحكم البلاد وبمشاركة الرئيس عبد ربّه منصور هادي الذي كان يمثّل الطرف الجنوبي في تحالف حرب 94، لكن هذا الوضع دفع بالنظام السابق إلى التحالف مع الحوثيين كجماعة دينية تقف على النقيض من حزب الإصلاح، كما أنها حليف تاريخي لقبيلة بكيل المنافس التقليدي لقبيلة حاشد على السلطة والنفوذ في شمال اليمن.
ومع اندلاع الحرب أصبحت قبيلة حاشد في مرمى الاستهداف من التحالف الجديد بقيادة الحوثيين والذي يستند على تحالفاته مع قبلية بكيل، وما تزال هذه التحالفات تشكل مرتكزًا للصراع، وأيضًا في مساعي إحلال السلام.
حصل الكثير من مشايخ القبائل الحاليين على دعم مالي وأسلحة بشكل غير مسبوق من قبل طرفَي الحرب
وتؤكد هدى فيصل، وهي باحثة غير مقيمة لدى مركز المعرفة، أنّ القبيلة تسببت في الكثير من التأُثير على الاستقرار السياسي للدولة في اليمن، إما عن طريق رفضها الخضوع التام للسلطة أو تورطها بشكل عام في أنشطة وممارسات استهدفت الجوانب الاقتصادية والسياسية والأمنية.
وتُبيّن في دراسة لها (نُشرت في أغسطس/آب الماضي عن تأثير القبيلة على الاستقرار السياسي اليمني عن الفترة من 2011 إلى 2022) أنّ تأُثير القبيلة يظهر في قدرتها على الحشد وتشكيل الميليشيا نتيجةً للولاء الكبير الذي يكنه أبناء القبيلة، ورضوخهم لأوامر الشيخ، فهذه الأوامر تكون مقدّمة عندهم على نظم الدولة وقوانينها، حيث تتيح القبيلة لأفرادها قتال التشكيلات العسكرية، والأمنية، والحكومية، أكثر من الانخراط في عملية اقتتال قبلي – قبلي.
وتستشهد الباحثة بمساندة بعض القبائل للحوثيين خلال الحروب الستة مع الحكومة المركزية، ووقوف بعض القبائل في لحج، وأبين، والضالع، وشبوة مع الحراك الجنوبي، وكذا المواجهات التي شهدها حي "الحصبة" في وسط العاصمة صنعاء خلال الفترة (23 مايو – 3 يونيو 2011) بين قوات الأمن، وأبناء الشيخ عبد الله الأحمر زعيم قبلية حاشد، بحيث وقف عدد من أبناء قبائل حاشد مع آل الأحمر في هذه المواجهة العنيفة.
وحسب باحثين وسياسيين، فإنّ التوازنات في الداخل اليمني لا يمكن أن تتم بعيدًا عن القبيلة، ولا يمكن المضي في تقديم حلول للصراع الذي يعيشه البلد حاليًا دون الاهتمام بالتوازنات المتواجدة على أرض الواقع، لأنّ القبيلة لم يضعف دورها، ولم يتلاشَ بعد الحرب، بل على العكس تعزّزت أدوارها، حيث حصل الكثير من مشايخ القبائل الحاليين على دعم مالي وأسلحة بشكل غير مسبوق من قبل طرفَي الحرب، كما تم ربط هذه القبائل بالتشكيلات السياسية القائمة اليوم في الجنوب والشمال.
وخلافًا للتأثير السلبي للقبيلة فإنّ التاريخ المعاصر، يُسجل دورًا ايجابيًا للقبيلة في اليمن حيث نجحت في الوساطة المحلية والتحكيم، وهذا يُعتبر وفق المختصين في الشأن اليمني مؤشرًا على إمكانية أن يكون للقبيلة دور مهم وحيوي في عملية السلام، لكنهم يربطون نجاح هذا الدور بمجموعة من الإصلاحات في المنظومة القبلية - كأن يتم تقنين دورها، والحد من لجوئها إلى استخدام السلاح لانتزاع مطالبها.
وترى الدراسة أنّ أكثر صور الانعكاسات الإيجابية للتواجد القبلي هو تشكيل "النخبة الحضرمية" على أيدي مجموعة من القبائل الحضرمية، وهي القوة التي لعبت الدور الكبير المهم والبارز في مواجهة تنظيم "القاعدة" حين كان يسيطر على مدينة المكلا عاصمة حضرموت، وتجزم أنّ تغييب هذه القوة المؤثرة والمتداخلة في عمق المجتمع اليمني "يُعد حتمًا ضربًا من الخيال".
ويقدّر باحثون عدد القبائل في اليمن بـ168 قبيلة، لكن هناك 5 تجمعات قبلية كبيرة هي: حاشد، بكيل، مذحج، حمير، كندة. ويتميّز التكوين البنائي للقبائل بالتداخل والتشابك إلى حد كبير، يصعب معه إيجاد هيكل بنائي موحّد وثابت يُعتد به، فضلًا عن ديناميكية التحالفات والتقاطعات بين القبائل الرئيسة والفرعية، وامتداد فروعها إلى خارج حدود اليمن.
وتشترك المكوّنات القبائلية والعشائرية اليمنية، حسب الباحثين، بدور كبير في رسم الخريطة السياسية لليمن، إلا أنّ هناك تباينًا في القوة السياسية للقبائل اليمنية، وفقًا لتماسكها الداخلي، وقوة تأثير شيوخها، ومدى تمسّكها بطابعها الحربي، ومدى اعتماد النظام السياسي الحاكم عليها.
يجزم المختصون أنّ استقرار نظام الحكم لا يمكن حدوثه دون الاعتماد على ولاء قبيلتي حاشد وبكيل أو إحداهما
ويرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، عادل الشرجبي، أنّ الحديث عن القبيلة في اليمن ينصرف بشكل أساسي على اتحادَي قبائل حاشد وبكيل، وهما بطنان من قبيلة "همدان بن زيد" أو ما تسمى بـ"همدان الكبرى"، وتسكن عشائرهما في المنطقة الممتدة من العاصمة صنعاء حتى الحدود السعودية شمالًا، وتتوزع إداريًا على محافظات صنعاء، وعمران، والجوف، وصعدة، وبعض مديريات محافظة مأرب، وينتميان في الغالب إلى الزيدية وتُقدّر نسبتهم بـ25-30% ومنهم جاء كثير من رؤساء شمال اليمن، أما باقي محافظات اليمن التي ينتمي جل سكانها (تُقدّر نسبتهم بـ60%) فيتوزعون على ثلاثة اتحادات قبلية: هي مذحج، وحمير، وكندة، وقد ضعفت فيها البنية والعلاقات القبلية.
وتُعد قبيلتا حاشد وبكيل من أكثر القبائل تماسكًا، واحتفاظًا بعصبيتها، وطابعها الحربي القتالي، إلى جانب أنّ كثيرًا من قادة الجيش هم من أبناء القبيلتين، وبالأخص من قبيلة حاشد، ونقاط تواجدهما ونفوذهما المكاني في العاصمة اليمنية صنعاء، والمناطق المحيطة بها، سهّل على القبيلتين التحكّم بالمركز السياسي، وجهاز الدولة اليمنية.
ولهذا كانت القبيلتان أكثر تأثيرًا في تقلّبات وديناميكية النظام السياسي الحاكم في شمال اليمن وامتد هذا التأثير إلى أرجاء واسعة من البلاد الذي شهد حروبًا متعددة، وعليه يجزم المختصون أنّ استقرار نظام الحكم اليمني لا يمكن حدوثه دون الاعتماد على ولاء قبيلتي حاشد وبكيل، أو على إحداهما.
(خاص "عروبة 22")