إنّها حالةٌ من الحَوَل الحقيقي على الرَّغم من أننا نتكلم عن قنبلةٍ نوويةٍ إيرانيةٍ مُحتملةٍ، ونتكلّم في المقابل عن قنبلةٍ نوويةٍ إسرائيليةٍ مؤكّدة!... ولأن الوضع هكذا، فالخطر هو من السلاح الموجود بالفعل، لا من السلاح الذي سيوجد في المستقبل!.
ولأنّ البرنامج النووي الإيراني يعود إلى أيام الشاه، فالواضح من هذه البدايات المُبكرة له، أنّ البدء فيه كان ردًّا على امتلاك إسرائيل سلاحًا نوويًا، وبالتالي، فإذا كانت المنطقة تواجه حالةً من عدم الاستقرار في اللحظة الحالية بسبب ما بين إسرائيل وإيران، فالمسؤولية عن ذلك تتحمّلها الدولة العبرية التي كانت السبّاقة إلى امتلاك السلاح النووي، لا الدولة الإيرانية التي تتدارك ببرنامجها وضعًا تراه مُهدّدًا لها في موقعها على الخريطة.
المجتمع الدولي لا يمكن التعويل عليه لأنه ينحاز إلى إسرائيل
وإذا كانت هناك دولة قادت جهودًا متواصلةً لإخلاء المنطقة من السلاح النووي، فهذه الدولة هي مصر التي بادرت إلى ذلك أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقامت بجولاتٍ وجولاتٍ في سبيل هذا الهدف داخل منظمة الأمم المتحدة وخارجها، وقد كانت الجولات إمّا في نيويورك حيث مقرّ المنظمة، أو في فيينا حيث مقرّ الوكالة الدولية للطاقة النووية.
كان ذلك في الفترة التي تولّى فيها عمرو موسى وزارة الخارجية المصرية من 1990 إلى 2000، ولم يهدأ الرجل طوال عقدٍ كاملٍ سعيًا وراء هذا الهدف، لكنّه لا ينطبق عليه في النهاية إلّا قول الشاعر: "صحّ منّي العزم، ولكن الدهر أبى".
والدهر هنا ليس سوى ما يُسمّى المجتمع الدولي، الذي لا يمكن التعويل عليه في مثل هذه المسألة ولا في غيرها لسببَيْن؛ أولهما أنه لا يوجد كِيان محدّد اسمه المجتمع الدولي، بحيث يمكن أن نخاطبه ويردّ علينا، أو أن نأخذ منه ونعطيه... لا يوجد في الواقع.. والسبب الثاني أنّ هذا المجتمع الدولي إذا التقى في محفلٍ، فإنّه ينحاز إلى إسرائيل كطرفٍ في المُعادلة ويقف ضدّ إيران على طول الخط.
تل أبيب لا تُبالي بإخلاء المنطقة من السلاح النووي فهل يكون الحل بسعي الدول الكبيرة في منطقتنا إلى امتلاكه؟
ليس معنى هذا الكلام أنّي أناصر البرنامج الإيراني، وإنّما معناه أنّ إغماض العين عن السلاح النووي الإسرائيلي، ثم فتحها عن آخرها على البرنامج الإيراني، يجعل الرأي العام في المنطقة يتعاطف تلقائيًا مع إيران، ليس عن رغبةٍ في التعاطف معها، ولكن لأنّه يراها في موقف الأضعف فتكتسب تعاطفه بالضرورة. تمامًا كما كنّا نتعاطف مع الطرف الأضعف في الأفلام العربية القديمة ولا ننتصر للبطل الذي كان يضربه، مع أنّنا لم نكن نعرف هذا ولا ذاك، بل كنّا نعرف أنّ الحكاية كلّها تمثيل في تمثيل، وأنّه لا يوجد في الحقيقة بطل ولا شخص يضربه البطل.
ولو أنّ أحدًا عاد إلى مذكّرات عمرو موسى التي تحمل عنوان "كتابيه" فسوف يجد تفاصيل معركته ضدّ السلاح النووي الإسرائيلي، وسوف يجد أنّه يرويها كما جرت، وسوف يكون علينا أن نبنيَ عليها إذا شئنا أن نستكمل هذا الطريق.
طبعًا نعرف أنّ إسرائيل ليست منضمةً إلى "معاهدة منع الانتشار النووي"، مع أنّها تملك سلاحًا نوويًا، ونعرف أن إيران منضمةٌ على الرَّغم من أنها لا تملك هذا السلاح، وعندما علّقت تعاونها مؤخّرًا مع "الوكالة الدولية للطاقة الذريّة" بقانونٍ صدر عن البرلمان في طهران، فإنّها أعلنت أنّ تعليق التعاون مع الوكالة لن يمنعها من الالتزام بمقتضيات وجودها في المعاهدة.
أذكر أنّ الصحافي جهاد الخازن كان طوال الفترة التي كتب خلالها عموده اليومي في صحيفة "الحياة" اللندنية، يقول إنّ على الدول الكبيرة في المنطقة أن تسعى إلى امتلاك سلاحٍ نوويّ، ما دامت إسرائيل لا تريد أن تستجيبَ لمبادرات إخلاء المنطقة من هذا السلاح. كان الخازن يتبنّى هذه الفكرة، وكان لا يتوقّف عن الدعوة إليها، وكان يسمّي الدول التي يقصدها ولا يُخفي أسماءها.
"طوفان الأقصى" أثبت لإسرائيل أنّ ما تتصوّره أمنًا لها بامتلاك السلاح النووي هو نوعٌ من السراب
إنّ عدم انضمام إسرائيل إلى المعاهدة على الرَّغم من امتلاكها السلاح النووي، يعني أنّها دولة غير مسؤولةٍ بالمعنى الذي تعرفه الدول للمسؤوليّة، وقد أثبتت التجربة أنّ تل أبيب لا تُبالي بكلّ ما يقال عن إخلاء المنطقة من مثل هذا السلاح. والسؤال هو: هل الحل إزاء وضعٍ كهذا أن تأخذ الدول الكبيرة في منطقتنا بنصيحة الخازن، أم أنّ سعيها في هذا السبيل سوف يواجِه رفضًا غربيًا حادًّا، وأميركيًا بالذات، كما هو حاصل مع الحالة الإيرانية؟.
المفارقة التي علينا رصدها، أنّ "طوفان الأقصى" بتوابعه أثبت لإسرائيل أنّ ما تتصوّره أمنًا لها بامتلاك السلاح النووي هو نوعٌ من السراب، وأنّ أمنها لا يتحقّق إلّا بسلامٍ حقيقيّ تقتنع به مع جيرانها، فتحصل عليه في مقابل الأرض كما تقول المبادرة العربية التي أطلقتها القمّة العربية المنعقدة في بيروت 2002.
سلاح إسرائيل النووي ليس ضمانةً لها لأنها لن تستخدمه، وإذا استخدمته فهي لا تضمن أنّ الطرف الآخر ليس لديه أسلحة دمار شامل، وهذه بدورها تتنوّع وليس من الضروري أن تكون نوويّة!.
(خاص "عروبة 22")