بينما تمارس جيبوتي توظيف موقعها الجغرافي الاستراتيجي، في الحصول على منافع اقتصادية عبر تأجير أراضيها كقواعد عسكرية لقوى إقليمية ودولية، يسعى الحوثيون أيضًا لإجبار المجتمع الدولي على التعاطي معهم بإيجابية عبر تهديد الملاحة من وإلى إسرائيل، تزامنًا مع طموح إثيوبيا غير المحدود للتواجد بشكل عسكري في سواحل البحر الأحمر.
وعلى خلفية ما يجري في غزّة، أدركت الدول الثلاث (جيبوتي واليمن وإثيوبيا)، أهمية توظيف الموقع الجغرافي سياسيًا، بحسابات مختلفة، تصطدم بالضرورة مع ما يُعتقد أنه مخطط دولي تقوده الولايات المتحدة، لإعادة فكرة "تدويل البحر الأحمر".
خلط أمريكي للأوراق
ودعا بيان مشترك صادر عن حكومات الولايات المتحدة وأستراليا والبحرين وبلجيكا وكندا والدنمارك وألمانيا وإيطاليا واليابان وهولندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة، الحوثيين إلى الكف الفوري عن "الهجمات غير القانونية والإفراج عن السفن المحتجزة لديهم". وفي تحذير مباشر، قال البيان إنّ الحوثيين "سيتحملون مسؤولية العواقب إن استمروا في تهديد الأرواح.. والتدفق الحرّ للتجارة في الممرات المائية الحيوية بالمنطقة".
لكن أهم ما يلفت الانتباه في البيان، الذي وزّعته رسميًا وزارة الخارجية الأمريكية، هو تأكيد هذه الحكومات على التزامها بما وصفته بـ"النظام الدولي القائم على القواعد"، وتصميمها على "محاسبة الجهات الفاعلة الخبيثة عن عمليات الاستيلاء والهجمات غير القانونية".
ولم يكن البيان بعيدًا عن تعمّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال جولته الأخيرة في الشرق الأوسط، الربط بين ما وصفه بـ"هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية في البحر الأحمر"، التي دعا لوقفها، وما أسماه بـ"فرص حقيقية لاندماج إقليمي لإسرائيل بعد انتهاء أزمة غزّة". هنا خلط بلينكن عن عمد الأوراق للتغطية على فكرة أنّ هجمات الحوثيين لدعم المقاومة الفلسطينية في غزّة، وإجبار دول الإقليم النظر لإسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة رغم جرائمها المستمرّة.
بلينكن أبلغ مسؤولين إسرائيليين أنّ هناك بالفعل فرصًا حقيقية لبناء قدر أكبر من التواصل والاندماج في الشرق الأوسط، دون أن يوضح ماذا كان يقصد، سواءً لناحية استمرار مساعي تطبيع العلاقات العربية مع دولة الاحتلال أم إشراكها في الترتيبات الأمنية المتعلقة بالبحر الأحمر.
لكنه استغل تواجده في السعودية، للمطالبة بوقف هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية بالبحر الأحمر، محذرًا من عواقب لم يحددها، ولافتًا إلى تفضيل واشنطن استيعاب الحوثيين هذه الرسالة ووقف الهجمات. بيد أنّ الحوثيين، أعلنوا تصعيد هجماتهم واستهدفوا سفينة أمريكية، قالوا إنها كانت تقدّم الدعم لإسرائيل، في إطار الرد على قصف أمريكي سابق استهدف قواتهم البحرية.
وفقًا لرواية توم شارب الضابط البريطاني السابق، فإنّ مضيق باب المندب يرقى إلى مستوى يطلق عليه "بوابة الحزن"، حيث لم تفلح "التحذيرات الأمريكية والدولية الصارمة" في ردع الحوثيين، بعدما اختارت شركات الشحن الكبرى، السير حول رأس الرجاء الصالح، بدلًا من مواجهة الحوثيين عبر ممر باب المندب.
وفي حين انخفضت أرقام شحن الحاويات بنسبة 20%، وارتفعت أسعارها على المدى القصير بنسبة 173% منذ منتصف الشهر الماضي، فقد تتقلّص لاحقًا إيرادات قناة السويس، إحدى أبرز مداخيل النقد الأجنبي لمصر (بعدما بلغت 9.4 مليارات دولار خلال العام المالي المنصرم، مسجلةً رقمًا هو الأعلى في تاريخها) إثر تغيير الشركات وجهاتها إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
الخروج الإثيوبي للبحر الأحمر
بالتوازي، تبحث إثيوبيا عن قاعدة تطل بها على البحر الأحمر وتكسر حاجز العزلة الجغرافية التي تعيشها منذ عقود، فيما يعتبره كثيرون تهديدًا مباشرًا لقناة السويس والدور المصري الإقليمي.
وتراهن أديس أبابا بشكل واضح على إمكانية إقامة قاعدة عسكرية، وليس فقط للخروج بحرًا، ما تنظر إليه دوائر مصرية رسمية على أنه مؤشر خطر يتجاوز الانتقال من مرحلة الدفاع للهجوم، معتبرةً "المخطط الإثيوبي العدواني" يمثّل تهديدًا لقناة السويس.
لكن القاهرة التي تسعى لتحجيم الطموح الإثيوبي تراهن في المقابل على دعم صومالي رسمي، باعتبار أنّ إعلان أديس أبابا اتفاقها مع إقليم أرض الصومال الانفصالي يُمثّل مساسًا بوحدة الصومال وسلامة أراضيه.
وطلب الصومال، الذي سيحل رئيسه حسن شيخ محمود، ضيفًا على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة خلال أيام، رسميًا من إلياس أبو بكر سفيره بالقاهرة والمندوب الدائم لبلاده بالجامعة العربية، توجيه الدعوة لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب لبحث الاتفاق، الذي يمنح بموجبه إقليم أرض الصومال لإثيوبيا الحق في استغلال 20 كيلومترًا شمال غرب الصومال في البحر الأحمر.
ووفقًا لمسؤول بالجامعة العربية "لا تملك إثيوبيا القدرات اللازمة، ولا تصلح لكي تكون دولة حاكمة في الإقليم"، لكنه يُقرّ في المقابل بأنّ "هناك محاولات لفرضها بالقوة من أطراف دولية وإقليمية".
معادلة أمريكية جديدة للمنطقة
ويُعد البحر الأحمر عربيًا بنسبة تفوق التسعين بالمئة من سواحله، ومن المفترض نظريًا أن يكون للدول العربية المطلة عليه نفوذ يمنع تدخل أي أطراف أخرى. ومع ذلك، يعتقد الجنرال محمد عبد الواحد الخبير القومي والاستراتيجي المصري، أنّ هناك نية أمريكية بريطانية لإعادة ترتيب المنطقة وتغيير البيئة الانتقالية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وتحويلها تدريجيًا إلى بيئة مستدامة.
واستشهد عبد الواحد في حديثه لـ"عروبة 22"، بما يجري في عدة دول عربية، مثل ليبيا المنقسمة والتي تمر بحالة من اللاسلم واللاحرب، والعراق يمر بحالة مشابهة، وبشكل أسوأ تمرّ السودان بمنعطف خطير قد يكون أسوأ مما تمر به اليمن، معتبرًا أنّ هذه الحالة تمثل تمهيدًا لمرحلة جديدة تقود فيها أمريكا وحليفتها إسرائيل تقسيم دول المنطقة وتفتيتها.
واعترف مسؤول مصري، على مضض بوجود تغيير في المعادلة الأمريكية، بعدما بدأت واشنطن تغيّر حلفاءها في الشرق الأوسط بعيدًا عن الحلفاء التقليديين، فمصر لم تعد أولوية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية. وحسبما يرى مسؤول عربي لـ"عروبة 22"، ثمة دور ما يتزايد بالمعادلة الأمريكية الجديدة لكل من الإمارات وإسرائيل وإثيوبيا، وبشكل أو بآخر ستدخل إيران المعادلة بعد ترتيبات قد تأخذ وقتًا أطول.
جيبوتي تتحول إلى "حامية عسكرية"
بالنسبة لجيبوتي فقد امتنعت عن إدانة هجمات الحوثيين "باعتبارها واجبًا أو إغاثة لإخواننا في فلسطين"، بحسب ما جاء على لسان وزير خارجيتها محمود علي يوسف.
ولم تفوّت حركة حماس الفرصة، وأشادت بـ"الموقف الشجاع" لجيبوتي الواقعة في القرن الأفريقي، وتتمتّع بموقع جغرافي استراتيجي قبالة مضيق باب المندب.
وأصبحت جيبوتي موطنًا لواحدة من أكبر تجمعات القواعد العسكرية الأجنبية على وجه الأرض خلال العقود الأخيرة، إذ تستضيف أكبر قاعدة فرنسية في أفريقيا، وقاعدة أمريكية وقواعد أخرى عديدة.
وحوّلت جيبوتي موقعها إلى استثمار للأهمية الجيوستراتيجية، باعتباره مصدرًا أساسيًا للدخل، يرجح معه الدكتور محمود زكريا أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن يؤثر بشكل سلبي على استقرارها السياسي والاجتماعي الداخلي، في ضوء التنافس الاجتماعي والإقليمي على المنطقة.
وفيما يرى مراقبون أن جيبوتي أصبحت "حامية عسكرية"، بعدما جعلت من المتاجرة بالقواعد العسكرية عنصرًا أساسيًّا في تنمية ذاتها، وتحسين مكانتها الدولية، امتنع وزير خارجيتها عن الرد على أسئلة "عروبة 22" بهذا الخصوص.
لكن عبد القادر كامل رئيس وزراء جيبوتي، الذي قال إنّ بلاده ليست على وفاق مع الحوثيين، تبنى موقف وزير خارجيته نفسه بوصف هجمات الحوثيين على أنها تعبّر عن شعور عميق تجاه إخوانهم في فلسطين، لافتًا إلى أنهم رفضوا طلبًا أمريكيًا لاستخدام أراضيهم لشن هجمات ضد الجماعة اليمنية.
مخططات لـ"تدويل" البحر الأحمر
بدعوى مطاردة أعمال القرصنة في المنطقة، اعتبر البعض أنّ فكرة تدويل مياه البحر الأحمر ومنافذه، ووضعه تحت وصاية الدول الكبرى، قد يشكل تهديدًا مباشرًا على مصالح الدول العربية، على نحو قد يفضي إلى احتمال تدخل الدول الكبرى في شؤون المنطقة.
ويتفق مع هذا الطرح رؤية يمنية ترى أن تدويل البحر الأحمر، يحمل في طياته تداعيات كارثية على الأمن القومي العربي، من بينها حرمان العرب من السيطرة على حركة الملاحة في هذا الممر المائي، مقابل اكتساب أطراف دولية حقوقًا في المنطقة قد تُستخدم للضغط في حالة تضارب المصالح.
وتصاعدت تحذيرات من أنّ غياب استراتيجية عربية متكاملة لحماية أمن البحر الأحمر سيكون بمثابة دعوة صريحة للتدخل الأجنبي في المنطقة وتدويل الممر المائي العربي.
وإذا كان خيار تشكيل قوة بحرية عربية مشتركة للدول المطلة على البحر الأحمر، تعمل وفق اتفاقية الدفاع العربي المشترك وتحت مظلة الجامعة العربية، غير ممكن عمليًا، تقترح ورقة بحثية دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في الدول المطلة على مضيق باب المندب والبحر الأحمر ودعم حكوماتها الشرعية؛ والاستمرار في تعزيز قدرات أمن الحدود البحرية للدول المطلة لصدِّ أيِّ أعمال تمسُّ سلامة الملاحة باعتبار أنَّ استقرارها مسؤولية مشتركة.
وبحسب تقارير فقد أنجزت إسرائيل أكبر مرصد عسكري في حوض البحر الأحمر، وبأهم منطقة استراتيجية داخل إرتيريا، بهدف مراقبة منطقة باب المندب الاستراتيجية، وضمان عدم تحوّلها إلى تهديد للمصالح الصهيونية في جنوب البحر الأحمر.
لكن مع الأسف، وكما تقول د. دلال السيد، لا يوجد تصوّر عربي واحد أو متكامل لتأمين البحر الأحمر رغم إدراك أهميته، وبالرغم من أنّ مجلس السلم والأمن العربي خلص إلى إعلان رفضه تدويله، ودعا الدول العربية المتشاطئة عليه إلى تحمّل مسؤولية تأمين سواحلها.
في السابق أيضًا صدرت دعوات لقطع الطريق على إسرائيل عبر إنشاء اتحاد مقصور على الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر على غرار الفكرة الفرنسية الخاصة بالاتحاد من أجل المتوسط بين الدول المعنية الثلاث بشكل أكبر وأوسع بهذا الممر (مصر صاحبة قناة السويس، والسعودية صاحبة أطول شاطئ عليه، واليمن حارسة باب المندب وخليج عدن).
المقترحات والدراسات التي تناولت مخاطر تدويل البحر الأحمر ودعت الدول العربية المتشاطئة عليه إلى تشكيل اتحاد أو تحالف يحمي الملاحة به ويمنع التدخلات الدولية بما يحفط الأمن القومي العربي، تم إهمالها كالعادة، وهو ما فتح الباب أمام أزمة جديدة قد تدشّن لعهد جديد في المنطقة التي تلاحقها الأزمات منذ أن استقلت دولها منتصف القرن الماضي.
(خاص "عروبة 22")