لأي شعب موارد تاريخية تُنتسب إلى معارك خاضها مع شعوب أخرى وفواتير دم دفعها من أجل قضايا عادلة. حافظت جنوب أفريقيا على إرث "مانديلا" وارتباطها الوثيق مع القضية الفلسطينية، وتذكّرنا هنا لإرث "جمال عبدالناصر" في قيادة حركات التحرير الوطني وتحرير القارة الأفريقية خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
لسنوات طويلة ارتبطت بالمحافل الدولية قضيتا تحرير جنوب أفريقيا من ربقة الفصل العنصري وتحرير فلسطين من ممارسات عنصرية تماهت مع التطهير العرقي، كأنهما توأم في العذاب الإنساني.
كان خريف 1975 نقطة الذروة في النضال المشترك حين قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أنّ "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، تمامًا مثل النازية والفاشستية والأبارتهايد، الذي كانت جنوب أفريقيا تعاني ويلاته.
عند مطلع تسعينيات القرن الماضي تخلت الدول العربية عن ذلك المكسب السياسي والأخلاقي بالغ الخطورة والأهمية في أجواء الدعوة إلى مؤتمر سلام في مدريد لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
كانت جنوب أفريقيا قد تحرّرت في ذلك الوقت وتصوّر كثيرون أنّ هناك فرصة أن يحدث اختراق مماثل يُنصف القضية الفلسطينية في مؤتمر مدريد، لكنه سرعان ما تبدّد.
رغم كل التحوّلات والانقلابات على إرث "عبدالناصر"، الذي وصفه "مانديلا" بـ"زعيم زعماء أفريقيا"، واصلت جنوب أفريقيا دعم القضية الفلسطينية وخفضت علاقاتها مع إسرائيل. كان ذلك تعبيرًا عن معنى تحرّرها نفسه.
إذا ما أُعفيت إسرائيل من التهمة الثابتة التي شاهدها العالم كلّه فإنّ ذلك يقوّض أية قيمة أخلاقية أو قانونية
ثم توّجت قصة تضامنها مع القضية الفلسطينية بالتقدّم إلى محكمة العدل الدولية بمذكرة قانونية مُحكمة وموثّقة (في 84 صفحة) كتبها خبراء قانونيون دوليون تتهم إسرائيل بارتكاب أبشع التهم، التي تستلزم معاقبتها.
"إنّ الدولة العبرية تورّطت وتتورّط وتخاطر بالتورّط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة".
أسندت الدعوى على تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، التي تثبت نيّتهم وتوجّههم لإبادة الفلسطينيين، وكلها معلنة أمام الكاميرات.
التهمة ثابتة ويصعب إنكارها بأي معنى قانوني أو إنساني، غير أنّ المحاكمة سوف تكون ميدانًا لحرب سياسية ضارية حولها.
الضغوط الأمريكية ماثلة بكامل قوتها لمنع إدانة إسرائيل، أو إلزامها بوقف الحرب فورًا.
بموجب اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية، فإنه يستلزم اتخاذ تدابير مؤقتة "من أجل حماية الضحايا من أية أضرار إضافية جسيمة غير قابلة للإصلاح".
الإدانة تشمل بالضرورة الولايات المتحدة، التي وفرت الغطاء السياسي لجرائم الإبادة الجماعية، وشاركت مباشرة في وضع الخطط العسكرية، كما دفعت بجنودها ومرتزقتها إلى القتال المباشر حسب تقارير عديدة.
بتعبير مستخف لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: "القضية بلا أساس"، كأن قتل وإصابة أكثر من مائة ألف فلسطيني أغلبهم نساء وأطفال وهدم أكثر من 70% من بيوت غزّة واستهداف المستشفيات وجميع مظاهر الحياة مشاهد متخيّلة وليست حقيقية.
بتعبير مستخف آخر لـمنسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كربي فإنّ "دعوى جنوب أفريقيا لا قيمة لها وتؤدي إلى نتائج عكسية"، كأنه يهدد الضحية الفلسطينية وجنوب أفريقيا صاحبة الدعوى بالعقاب.
إما أن تكون هناك عدالة دولية أو ألا تكون. هكذا بكل وضوح.
يستلفت الانتباه هنا أنّ الاتفاقية الدولية لمناهضة الإبادة الجماعية اعتُمدت عام 1948، إثر الحرب العالمية الثانية وفي عام النكبة الفلسطينية ذاته.
في ذلك الوقت، لم يُبدِ أحد أدنى استعداد لمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب، التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين وأخطرها التطهير العرقي والتهجير القسري، وفق بنود تلك الاتفاقية.
جدير بالانتباه أيضًا أنّ صاحب تعبير الإبادة الجماعية يهودي بولندي من الذين عاينوا، أو عانوا مآسي "الهولوكوست".
وفق التعريف الدولي للإبادة الجماعية فهو "القتل العمدي الجماعي لمجموعة كاملة من البشر على أساس عرقي أو ديني".
إذا ما أُعفيت إسرائيل من التهمة الثابتة، التي شاهدها العالم كلّه، فإنّ ذلك يقوّض أية قيمة أخلاقية أو قانونية.
هذه المرة لم يكن بوسع إسرائيل الامتناع عن المثول أمام محكمة العدل الدولية على ما فعلت عند نظر قضية شرعية الجدار الأمني العازل في الضفة الغربية.
إذا ما حدثت الإدانة، كما هو مأمول، فإنّ ذلك يُسقط سردية الدولة المحاصرة الديمقراطية، التي أكسبها "الهولوكوست" تعاطفًا شعبيًا غربيًا واسعًا.
نحن أمام اتهامات موثّقة بارتكاب جرائم إبادة أخطر مما هو منسوب للنازي.
إنه تقويض لشرعية تأسيسها بنظر الرأي العام الغربي، الذي بدأ يرفع صوته ضجرًا من جرائمها في غزّة بمظاهرات مليونية داخل عواصمه ومدنه الكبرى.
أية إدانة مأمولة تضع الولايات المتحدة في قفص واحد مع إسرائيل
لأهمية وخطورة رسائل المحاكمة غيّرت إسرائيل استراتيجيتها من تجاهل "العدل الدولية" إلى المثول أمامها لدحض الاتهامات الخطيرة الموجهة إليها.
رفضت دعاوى الإبادة الجماعية وقالت إنها تخوض حربًا للدفاع عن نفسها، وأنها تعمل اقصى طاقتها لمنع الأذى عن المدنيين الفلسطينيين!!
إنها تدرك أنّ الأثر المعنوي والسياسي في هذه القضية لا يُحتمل على مستقبل الدولة العبرية.
أية إدانة مأمولة تحيي بالضرورة دعوات اعتبار الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، وتؤسّس لموجة تضامن إنساني غير مسبوقة مع القضية الفلسطينية كما تضع الولايات المتحدة في قفص واحد مع إسرائيل.
(خاص "عروبة 22")