محامون وخبراء قانونيون يمثلون دولة جنوب إفريقيا، وآخرون يمثلون إسرائيل، دخلوا أمس واليوم، الخميس والجمعة، إلى قاعة محكمة العدل الدولية، في مدينة لاهاي الهولندية، ليعرضوا وجهات نظر الطرفين في الدعوى التي أقامتها الدولة الإفريقية، والتي تتهم فيها دولة الاحتلال بارتكاب «إبادة جماعية» ضد الشعب الفلسطيني، وتطالب باتخاذ تدابير عاجلة، مؤقتة، لوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، والسماح بعودة النازحين قسريًا، وإدخال المساعدات الإنسانية فورًا.
مع كل ما يراه العالم، بالصوت والصورة، منذ 98 يومًا، أو 76 سنة، أوضحت جنوب أفريقيا، بملف قانوني يقع في 84 صفحة، أن الممارسات الإسرائيلية تحمل طابع الإبادة الجماعية، لأنها مصحوبة بالنية المحددة، للقضاء على سكان قطاع غزة، كجزء من الجماعة القومية والعرقية الأوسع، أي الفلسطينيين. ما يعني أنها تنتهك اتفاقية حظر الإبادة الجماعية، لسنة 1948، التي وقعت عليها الدولتان، والتي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للفصل في النزاعات المتعلقة بهذه الاتفاقية، التي تلزم الدول الموقعة عليها عدم ارتكاب ومنع ومعاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية، التي تعني، بتعريف الاتفاقية، الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية.
كثيرًا ما قارن الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الممارسات الإسرائيلية في الأراضى المحتلة، بتلك التى كان يقوم بها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قبل سنة 1994. وفي 31 أغسطس 2001، استضافت مدينة دربان، ثالث أكبر مدنها، مؤتمرًا دوليًا شهيرًا، انتهى بإصدار إعلان وبرنامج عمل، لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري. وهنا، قد تكون الإشارة مهمة إلى أن الخارجية الإسرائيلية تباهت، في أغسطس 2021، بالجهود التي أسفرت عن مقاطعة 31 دولة إحياء الذكرى العشرين لاعتماد إعلان وبرنامج عمل دربان. وقد تكون الإشارة مهمة، أيضًا، إلى أن دولة الاحتلال، وجهت سفراءها، خلال الأيام الماضية، بالضغط على الدول المضيفة، لإصدار بيانات تنفي اتهامها بارتكاب الإبادة الجماعية، وقيل لهؤلاء السفراء، طبقًا لثلاث برقيات حصل عليها موقع «آكسيوس» الأمريكي، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي وجّه رسائل إلى قادة الدول، طالبهم فيها بالشيء نفسه.
المهم، هو أن محكمة العدل الدولية، طبقًا للفصل الرابع عشر من ميثاق الأمم المتحدة، هي الأداة القضائية الرئيسية للمنظمة، وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي، الذي يمنح الدولة المدعى عليها أسابيع، أو شهورًا، للرد وتفنيد الدعوى، وإذا اعترضت على اختصاص المحكمة، يتم عقد جلسة استماع أخرى، تقرر بعدها المحكمة ما إذا كانت ستنظر الدعوى، أم لا. لكن مطالبة جنوب إفريقيا باتخاذ تدابير عاجلة، مؤقتة، قد يدفع باستعجال النظر في هذا الجانب، قبل تناول الأسس الموضوعية للاتهام الأساسي. وغالبًا ما يقرر قضاة المحكمة اتخاذ هذه التدابير، ومطالبة الدولة بالامتناع عن أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع.
لن تُصدر محكمة العدل الدولية، إذن، حكمها بشأن اتهامات الإبادة الجماعية، إلا بعد نظر أسس الدعوى الموضوعية، وهو أمر قد يستغرق سنوات طويلة، كما حدث مثلًا مع الدعوى التي أقامتها البوسنة ضد صربيا، سنة 1993 والتي قررت المحكمة اتخاذ تدابير عاجلة بشأنها، لكنها لم تبت في أسسها الموضوعية إلا سنة 2007، وقضت بأن صربيا انتهكت التزامها بمنع الإبادة الجماعية، في المذبحة التي ارتكبتها قواتها وراح ضحيتها أكثر من 8 آلاف. أما الأوامر المؤقتة، أو القرارات العاجلة، التي من المفترض أن تكون ملزمة وسارية في أثناء نظر الدعوى، فلا تعني بالضرورة التزام الدولة المدعى عليها بتنفيذها، لأن المحكمة ليس لديها أي وسيلة أو آلية لتنفيذ قراراتها أو أحكامها. ومع تسليمنا بأن جنوب إفريقيا يكفيها، طبعًا، شرف المحاولة، يكفي أن تعرف، مثلًا، أن الولايات المتحدة سحبت اعترافها بالسلطة القضائية الإلزامية للمحكمة، ما يعني أنها قد تلتزم بما تقبله من قرارات، وقد تتحلل مما لا تقبله منها، ضاربة عرض الحائط بالمادة الرابعة والتسعين من الميثاق الأممي، التي تتعهد فيها كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بأن تنزل على حكم المحكمة في أي قضية تكون طرفًا فيها. وربما لهذا السبب، وصف جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، الدعوى الجنوب إفريقية بأنها بلا قيمة!
("الأهرام") المصرية