على هذا الأساس لا يمكن فصل تكوين دولة "إسرائيل" عن الاستعمار، ولا يمكن فصل الاستعمار (الذي ظلّ ممتدًا بأشكال مختلفة إلى يومنا هذا) عن الدولة الرأسمالية التي تشكّلت في أوروبا في القرن التاسع عشر، والتي سعت إلى تصدير هذا الفائض السكاني إلى الدول الضعيفة من أجل السيطرة عليها وجعلها أسواقًا استهلاكية لبضاعتها، والاستحواذ على مواردها الطبيعية اللازمة لتطوّر الدول الاستعمارية.
من هذا المنطلق، بدأ التفكير في إقامة دولة لليهود الذين كان أغلبهم فقراء ويعيشون على هامش المجتمع الأوروبي. وبتحليل تاريخي مقتضب جدًا، فإنّ اليهود كانوا بأغلبهم في المجتمع الإقطاعي يعملون في التجارة والربا وهي وظيفة كانت منبوذة لدى المجتمع الأوروبي الإقطاعي القائم على استغلال فقر وعوز الناس وجعلهم يعملون في الأرض لصالح النبلاء، وحينما انتقل المجتمع الأوروبي من عصر الإقطاع إلى العصر الرأسمالي فقد اليهود وظائفهم نتيجة وجود البنوك ومؤسسات الإقراض بدلًا من اقتصارها على عمل الأفراد.
وفي السياق ذاته، أصبح اليهود كتلة بشرية غير عاملة وغير محبوبة نتيجة عملها في الربا وفي غيره من الموبقات الهدّامة للمجتمع، ما جعل الدول الغربية تبحث عن حلول للخلاص منهم عبر نفيهم، باعتبار خيار النفي أفضل حلّ ممكن لهم بدلًا من خيار القتل الذي لجأ إليه هتلر .
وضمن هذا الإطار، جرى إنشاء الحركة الصهيونية في المجتمع الرأسمالي، بمساعدة الدول والحكومات الغربية، من أجل إقامة "وطن" لليهود على أرض فلسطين وإنشاء "دولة" لهم تكون في خدمة الاستعمار من جهة، وتشكّل حلًا للفائض السكاني من اليهود غير العاملين في الغرب، وإغراءً لاستقطاب اليهود الفقراء من العالم.
تم إنشاء هذه "الدولة" لليهود، المسماة "إسرائيل" على أرض فلسطين بمساعدة الدول الكبرى وبتنكّر تام للسكان الاصليين الذي تم تهجيرهم قسرًا من فلسطين، فكان ما كان من نكبة واحتلال واستيطان... إلى أن جاء السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 ليضرب المشروع الصهيوني في فلسطين في أساسه.
فمن ناحية أظهرت الحرب على غزّة طبيعة هذه الدولة الهشّة الضعيفة التي لا تستطيع أن تهزم شعبًا تتوفر له أسلحة متواضعة قياسًا على ما يتوفّر للجيش الإسرائيلي المهزوم من إمكانيات التدريب والتسليح والعتاد المتطوّر والدعم الغربي الكامل، ما بدأ يثير التساؤل في أوساط الغرب عن مدى جدوى هذه "الدولة" المصطنعة في حماية المصالح الغربية في المنطقة، حتى أنّها أصبحت مكانًا غير آمن لليهود أنفسهم، لا بل إنّ فلسطين التي بُنيت عليها "دولتهم" أصبحت المكان الأكثر خطورة عليهم، إذا أخذنا في الاعتبار أنّ وضع اليهود في العالم هو الآن أفضل بكثير مما هو عليه وضعهم الأمني في الأراضي المحتلة، ما جعل حوالى نصف مليون يهودي يعودون أدراجهم إلى أوروبا من غير رجعة، ناهيك عن الهجرة الداخلية الكبيرة للمستوطنين الذين كانوا يسكنون في غلاف غزّة وشمال فلسطين.
وإذا ما تطوّر الوضع أكثر، وبالنظر إلى مسار تطوّر المقاومة وما باتت تُشكّله من أخطار أمنية واقتصادية على دولة الاحتلال، فإنّ "إسرائيل" نفسها ستتحوّل من عبء على أصحاب الأرض إلى أكبر عبء على داعميها، ما سيعيد اليهود في "هجرة معاكسة" إلى وضعهم المنبوذ السابق في أوروبا.
(خاص "عروبة 22")