قصة أخرى من المأساة نقلها مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي، للطفل عمر لبد (12 عامًا) وهو يبكي بحرقة بجوار جثمانَيّ والديه بعد قصف منزلهم، فلم يتبقَ له ولأشقائه الأربع، وبينهم طفلة رضيعة، سوى ركام هذا المنزل ومستقبل مجهول.
مأساة أطفال غزّة أكبر من أن يتم رصدها في عدد من القصص والشهادات التي تُبثّ على منصات الإعلام، فلا يزال تحت الركام في مدن وأحياء غزّة آلاف القصص التي لم تخرج إلى النور، والتي بمجرد ظهورها سيزداد المشهد القاتم قتامةً.
"اليُتم" سيصبح عنوانًا لمرحلة ما بعد الحرب، فثمّة تقديرات تشير إلى أنّ هناك نحو 25 ألفًا تيتّموا خلال الحرب المستمرة على غزّة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، وهذا العدد مرشّح للارتفاع نتيجة استمرار القصف والقتل.
وحول مصير أولئك الأطفال، تقول رئيس قسم الإعلام في جامعة خضوري الفلسطينية والباحثة المتخصصة في قضايا الأطفال ولاء بطاط لـ"عروبة 22": "ثمة آليات عدة للتعامل معهم بعد انتهاء الحرب، فبعضهم سيكون في رعاية واحتضان الأسر الممتدة والأقارب من الدرجة الأولى، وبعض هؤلاء الأيتام سيتمّ إيداعهم في مراكز إيواء علمّا أنّ أغلب هذه المراكز التي كانت موجودة في غزّة تدمرت أو تضررت، وما تبقى من مؤسسات ودور أيتام تجاوزت أعداد الأطفال فيها قدرتها الاستيعابية، ما يحتّم وضع خطط عاجلة لإيواء الأيتام الجدد، فضلًا عن خيار آخر قد يتم اللجوء إليه وهو أن يصار إلى احتضان هؤلاء الأطفال من قبل أُسر من غير أقاربهم داخل فلسطين أو خارجها علمًا أن خروجهم من أرضهم يبقى خيارًا غير محبذ".
جرائم الاحتلال ضد الإنسانية.. والطفولة
هناك اليوم نحو مليون طفل اضطروا للنزوح قسرًا إلى جنوب قطاع غزّة في أماكن مكتظة دون طعام وخيام ومياه شرب، ما يعرّضهم للجفاف وسوء التغذية والأمراض، وبالفعل "شهدنا الأسابيع الماضية حوادث حقيقية لأطفال فقدوا حياتهم نتيجة الجوع والبرد لأن الخيام التي يعيشون فيها غير مهيأة لهذا البرد القارس، فضلًا عن انتشار الأوبئة"، تضيف بطاط، وتشير إلى أنهم يتلقون اتصالات يومية، يشكو فيها الآباء من عدم استطاعتهم توفير فتات الخبز لأبنائهم "كما أننا نتواصل أيضًا مع عائلات في شمال القطاع، يقولون إنهم ربما يموتون جوعًا في أي لحظة، إذ لا يستطيعون الخروج من بيوتهم نتيجة سيطرة قوات الاحتلال على بعض مناطق الشمال".
الحرب وتأثيراتها النفسية
يتعرّض الطفل الفلسطيني عمومًا، والغزاوي خصوصًا، لصدمات مستمرة طيلة حياته، ويخرج من عدوان لآخر، لذلك من الصعب تحديد الحالة النفسية التي يعانيها، لكن الأكيد أنها حالة تتجاوز "الصدمة"، ولذلك هناك من لا تظهر عليه أعراض نفسية لأنه يحتفظ بـ"الصدمة" في داخله، وهي الحالة الأخطر نفسيًا على المدى الطويل.
وتمتلك غزّة تركيبة سكانية كثيفة، يشكل الأطفال نحو نصفها، ما ساهم في زيادة الضحايا منهم، فأضحت "مقبرة مفتوحة وجماعية" للأطفال؛ إلى درجة جعلت منظمة اليونيسف تصنّف قطاع غزّة على أنه "أخطر مكان للأطفال في العالم".
وبعد مرور مئة يوم من العدوان الإسرائيلي، تشير التقديرات إلى أنّ عدد الضحايا يتجاوز 87 ألفًا بين قتيل وجريح، أكثر من 70% منهم هم أطفال ونساء، مع تسجيل نحو 10000 آلاف شهيد من الأطفال، وأكثر من عشرين ألف طفل مصاب، ما يزيد عن 30% منهم إصابتهم خطرة، بجانب حالات بتر الأطراف وإعاقة كاملة. فيما أكد جيمس دينسلو، من منظمة إنقاذ الطفولة، أنّ "عدد القتلى من الأطفال خلال أول شهرين في الحرب فقط هو ربع العدد الإجمالي المسجّل خلال 17 عامًا في مناطق النزاع المختلفة"، كما وصف المتحدث باسم "اليونيسيف" جيمس إيلدر، هذه الحرب بأنها "حرب على الأطفال".
يتضح جليًا أنّ الأطفال هم هدف رئيسي لقوات الاحتلال، باعتبارهم "مقاومين محتملين" مستقبلًا، وثمة أسباب أخرى تتعلق بالديموغرافيا الإسرائيلية، خصوصًا أنّ هناك ما يُقدّر بـ50,000 إمرأة حامل في غزّة، وعليه فإنّ استهداف الأطفال والنساء ثبت أنه عمل ممنهج ومتعمّد وليس عشوائيًا من قبل قوات الاحتلال، ضمن إطار حرب صريحة ضد "النسل الفلسطيني".
فلطالما كانت الديمغرافيا تمثّل هاجسًا لدى الدولة العبرية، إذ وفقًا لتقرير أعدّته الإدارة المدنية الإسرائيلية، يُرجح وصول عدد فلسطينيي غزّة إلى نحو 4.3 مليون نسمة بحلول 2050، بينما سيبلغ عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزّة مجتمعين نحو 10 ملايين فلسطيني (من دون القدس الشرقية)، مقابل 7.5 مليون يهودي، ما يعني أنّ "يهودية الدولة" ستصبح في خطر؛ ولذلك تلجأ إسرائيل إلى عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري.
.. ويكفي أن نتذكّر ما حذّر منه عام 2004 عالم الديموغرافيا الإسرائيلي في جامعة حيفا آرنون صوفر (مستشار آرئيل شارون آنذاك وصاحب خطة محاصرة غزّة) حين قال: "التدمير للدولة اليهودية قادم، ما لم تتخذ الإجراءات الحاسمة ضد خطر زيادة السكان الفلسطينيين، وإذا أردنا البقاء على قيد الحياة... علينا أن نقتُل ونقتُل".
(خاص "عروبة 22")