نتوقف هنا عند معضلتين على الأقل: أوضاع الواقع العربي من جهة، وعملية إدراكه من جهة ثانية، هذان المركبان يُترجمان في الحقيقة كيفية وعينا بطبيعة المسار التاريخي للواقع العربي، الذي يمكن تلخيصه في التساؤل التالي: لما لم نحقق منذ عقود مسارًا عربيًا تقدميًا؟.
يمكن رصد بدايات تبلور هذه الأزمة منذ مرحلة تفكيك الإمبراطورية العثمانية، ثم ما تلاها من تجارب تخص التقسيم الجغرافي للوطن العربي، وصولًا إلى تجربة الاستعمار ثم الوطنية.
هل نُدرك واقعنا العربي كما هو أم ننسج حجاب الجهل مما يعمّق أزمتنا؟
فرغم احتفاظ كل تجربة بخصوصياتها وكذا سياقاها التاريخي، إلّا أنّه بالمجمل ظلت هناك قراءة عامّة تلخص مجمل التجارب بوجود أزمة تخص الواقع العربي، وهي الأزمة التي يُعبّر عنها في الغالب بعدم القدرة على خلق قوة إقليمية قادرة على مواجهة المخاطر وفرض توجهاتها بعيدًا عن التبعية السياسية للقوى العالمية.
على مستوى الوعي الجمعي للشعوب العربية مثلًا، خلقت هذه الأزمة شعورًا بالشقاء والإحساس بالعجز عن مواكبة المسار الاقتصادي والسياسي للقوى الغربية، مما رسم مسارًا تاريخيًا تراجعيًا، الأمر الذي يجعلنا أمام واقع عربي يعيش على وقع فقدان البوصلة المستقبلية التي بإمكانها تجاوز هذه الوضعية، لكن ألا يعني فقدان البوصلة هنا عدم قدرتنا على إيجاد خطاطة مستقبلية توافق الواقع العربي، أو بصيغة أخرى أكثر صراحةً: هل نُدرك واقعنا العربي كما هو أم ننسج حجاب الجهل مما يعمّق أزمتنا؟.
يجب التذكير بدايةً بأنّ مفهوم التقدم استُلهِم من السياق الغربي الحداثي، فالوعي التاريخي هو وعي حداثي، إذ لم يكن ممكنًا بلورة المفهوم قبل الثورة الفرنسية، حيث ساد التصوّر الثيولوجي (الديني) خلال العصر الوسيط والتصوّر الدائري في الفلسفة اليونانية، ممّا يقف وراء صدور العديد من القراءات النقدية المشكّكة في هذا الأفق التصاعدي لمسار الفاعلية البشرية، أي القراءات المشكّكة في مكاسب ما بعد الثورة الفرنسية، وفي مقدمتها ارتفاع مؤشر الوعي الحداثي.
ومعلوم أنّ هذه القراءات شملت السياق الغربي والعربي على حد سواء، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما صدر عن المفكر الفلسطيني وائل حلاق الذي حاول أن يشيطن مفهوم التقدّم بذريعة تراجع الشق الأخلاقي الإنساني، لكن مع ذلك نؤكد أنّ المطلب التقدمي يظلّ في جل مناحي الحياة مطلبًا مرغوبًا وحتميًا حتى نضمن مكانًا لوجودنا العربي مستقبلًا.
من منظور تاريخي، واقعنا العربي الراهن هو على المدى القريب امتدادٌ لتجربتين، التجربة التحرّرية في إطار مشروع القومية العربية؛ والتجربة الوطنية: الأولى تدخل في إطار ماضينا المحين باعتباره أفقًا لا زال مرغوبًا؛ بينما تحيل الثانية على تجربة جديدة نسبيًا، تجربة ترسم لأبعاد جغرافية وثقافية يختلط فيها البُعد الوطني والقومي والسياسي. يتم تقييم التجربتين معًا باعتبارهما تجربتين لم يحقّقا النهضة المنشودة.
لكن ما يغيب عنّا أنّ عملية إدراكنا لهذه التجارب تنطلق من المنشود راهنًا، مما يجعلنا نحمل هذه التجارب بآفاق أكبر مما تتحمّل، بل ونخرجها من سياقها التاريخي، ما دمنا نحاول قراءة هذا الواقع بأفق غربي يتعامل مع السلم التاريخي بمنطق تراتبي نحو مزيد من التقدمات، وهو المسار الممتد منذ عصر الأنوار إلى اليوم.
صحيح كانت هناك بعض الفجوات أو الأزمات التاريخية التي عرفها السياق الغربي، لكن بالمجمل، حافظ السياق الغربي نفسه على مساره التقدمي بشكل قوي ولافت، ممّا جعله نموذجًا إرشاديًا في الوعي العربي.
نمارس بوعي أو بدونه نوعًا من المحاباة النقدية إزاء البنية السياسية والثقافوية التي ننتمي إليها
والحال أنّ تبنّي هذا النموذج بشكل مبالغ فيه ينتج عنه تغييبٌ لواقعنا والاستغراق بالمقابل بمستقبل هجين يحمل تصوّرين، التصوّر الغربي ونظيره العربي: الأول يخصّ المنحى الحداثي، والثاني يحيل على استهجان هذا المسار، لأنّه يذكّرنا بعدم قدرتنا على التخلّص من التبعية الغربية وكذا رغبتنا في جعل الأولوية الارشادية لهويتنا التراثية.
على سبيل المثال، عندما نتكلّم عن علمنة الدولة، فإنّ أغلب الدول العربية تعيش على واقع التحديث العالمي، بغض النظر عن حيثيات هذه العلمنة والإشكالات المتفرعة عنها، لكن على مستوى التصوّرات أو الخطابات هناك جدال متعالٍ نوعًا ما، سواء عند تيار العلمانية أو التيار المحافظ أو حتى في الوعي الجمعي.
إنّ ما يستوجبه واقعنا العربي لتجاوز أزماته هو إعادة بلورة عملية إدراك هذا الواقع بعيون الراهن، فقبل تسطير الأفق المستقبلي، علينا أولًا تحديد نمط تعاطينا مع واقعنا كما هو، أي أن نقوم بعملية نقدية حقيقية، إذ نمارس بوعي أو بدونه نوعًا من المحاباة النقدية إزاء البنية السياسية والثقافوية التي ننتمي إليها، مما يجعلنا ننسج غطاءً تبريريًا وتمويهيًا يؤثّر بشكل لافت على كيفية رسم انتظاراتنا المستقبلية التي تذهب في الغالب أبعد مما يمنحه الواقع العربي.
(خاص "عروبة 22")