وجهات نظر

هل أعادت الحرب على غزّة تشكيل الشرق الأوسط؟

"الحرب التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط"؛ كان ذلك عنوان لدراسة نُشرت في العدد الأخير من دورية "فورين أفيرز"، التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، حاول كاتباها الخبيران في شؤون المنطقة، وبحسب العنوان الفرعي، الإجابة عن السؤال التالي: كيف لواشنطن إعمال الاستقرار في إقليم متحوّل؟ - How Washington Can Stabilize a Transformed Region.

هل أعادت الحرب على غزّة تشكيل الشرق الأوسط؟

وقبل أن يجيب الباحثان عن السؤال، حاولا رسم الرؤية الأمريكية حول وضع منطقة الشرق الأوسط قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، "بدا قبل ذلك التاريخ وكأنّ رؤية الولايات المتحدة للشرق الأوسط قد بدأت تؤتي ثمارها أخيرًا".

ولخّص الباحثان تلك الرؤية التي شهدت قدرًا من التحقق الميداني، وتجلى في الآتي:

أولًا: التوصل إلى تفاهم ضمني مع طهران فيما يتعلق ببرنامجها النووي، حيث أوقفت إيران تطوير البرنامج بشكل فعال مقابل الحصول على دعم مالي.

ثانيًا: بلورة تفاهم مركّب بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة السعودية وإسرائيل ينتج عنه من جانب اتفاقًا دفاعيًا مشتركًا بين أمريكا والسعودية، ومن جانب آخر تطبيعًا سلاميًا بين إسرائيل والمملكة.

ويترتب على هذا التفاهم المركّب الانخراط مباشرة في تحقيق خططها التي تتعلق بتنفيذ الممر التجاري الطموح الذي يصل بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط "الخليج وحيفا" للتغلب على التأثير المتنامي للصين في الإقليم.

قناعات واشنطن حول الشرق الأوسط كانت كليًا خاطئة

لكن ما حدث، ووفقًا للباحثين، ألقت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول "بالإقليم في حالة من الاضطراب turmoil، وقلبت رؤية الولايات المتحدة رأسًا على عقب".

أدان الباحثان الولايات المتحدة الأمريكية بسبب سوء تقديراتها حول الأوضاع في المنطقة، وأشارا إلى أنّ كل ما جرى "هندسته" للمنطقة من ترتيبات قد تعثّر بفعل هذا الطوفان، وكشف عن إخفاق واشنطن في رسم الرؤية التي تتماشى مع طبيعة التفاعلات وموازين القوة في الإقليم.

لم تنتبه الولايات المتحدة إلى ما كانت المنطقة تفور به من توترات، بحسب الدراسة، التي لفتت النظر إلى أنّ توترًا بارزًا لا بد لواشنطن من مواجهته هو "قوة طهران المتصاعدة المدوية"، وضرورة البحث عن طرق "تكبح إيران ووكلاءها".

وحذّر الباحثان من احتمالية نشوب حرب إقليمية تتجاوز العدوان الإسرائيلي على غزّة والضفة، كأحد التداعيات التي ستترتب على هذا الطوفان.

في هذا الإطار؛ تشير الدراسة، بوضوح، إلى أنّ واشنطن قد "بالغت في تقدير مدى استقرار" الإقليم من ناحية، كما قلّلت من تقديرها للقوات المحتشدة ضده، والمستنفرة دومًا ضد خططها و"هندساتها"، والتي لم تتوقف إيران يومًا، عن دعمها ورعايتها سياسيًا وعسكريًا. ما أنتج في النهاية وقوع واشنطن في حسابات استراتيجية خاطئة تقوم على "إنكار القضية الفلسطينية".

وبالأخير، يخلص الباحثان إلى أنّ "قناعات واشنطن حول الشرق الأوسط كانت كليًا خاطئة" - Washington's beliefs about Middle east were completely incorrect.

وتوجّه الدراسة، وكثير من الأدبيات الاستراتيجية الصادرة مؤخرًا، النظر إلى أنّ ردة فعل الولايات المتحدة الأمريكية على الحرب في غزّة والتي صبّت في اتجاه "الدعم المطلق للعدوان العسكري الوحشي" لإسرائيل؛ ما أدى إلى غضب عارم عابر - ليس فقط لدول الإقليم - وإنما للقارات، وفي الجنوب العالمي، ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

وبالرغم من مرور وقت على انطلاق "طوفان الأقصى"، كذلك تنامي الأصوات المعارضة، من قبل حلفاء أمريكا وغير الحلفاء على السواء، فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تستطع أن تطوّر موقفًا يعالج سوء تقديراتها "وهندساتها" القسرية، كما لم ترقَ "الخطوات المتواضعة" التي قامت بها في محاولة لتجاوز الطوفان وتداعياته إلى إمكانية إحلال "استقرار المنطقة"، بل على العكس تمامًا.

صحيح أنّ الدراسة تبنّت منهجًا يعتمد نقدًا صريحًا لسياسات واشنطن المتعلقة بالشرق الأوسط، إلا أنها طرحت تصوّرًا ملتبسًا لخروج الولايات المتحدة الأمريكية من مأزقها في موقفها حيال المنطقة.

فبالرغم من أنّ الدراسة دعت واشنطن إلى التطلع للأمام وذلك بتبني حل شامل متوازن أو بحسب وصف الدراسة "اتخاذ وجهة نظر عاقلة"، أو "صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط"؛ إلا أنّ القراءة المتأنية لما خلص إليه الباحثان تكشف أننا أمام "صياغة جديدة لطرح قديم"؛ فيما عدا عدم الغياب الأمريكي عن الإقليم حسب الرؤية القديمة التي كانت تخطط للانسحاب من المنطقة - النسبي بالطبع اعتمادًا على التطبيع الإسرائيلي العربي بين النخبة الثروية في المنطقة - بغرض التفرّغ "لآسيا وأوروبا".

وعليه توصي الدراسة واشنطن بألا تتخلى عن كل ما عملت من أجله في الماضي، لأنها "تستطيع - ويجب عليها - البناء على عناصر النظام الإقليمي الذي تصورته سابقًا". ومن ثم وضع الباحثان خارطة طريق لتصوّر هو نفسه القديم، ولكنه يختلف في الترتيب.

كان التصوّر القديم يبدأ بـ"تطبيع إسرائيلي سعودي"؛ سياسي/اقتصادي، بينما الجديد المطروح هو اعتماد المملكة كوسيط يمتلك نفوذًا ممتدًا وفاعلًا لدى كل الأطراف للوصول إلى حزمة حلول متشابكة تتضمن: إحياء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من أجل حل شامل، ومساعدة الولايات المتحدة في إبرام اتفاق نووي ناجع بينها وبين إيران، وبالأخير، يمكن للرياض وواشنطن معًا أن يقيما الممر الاقتصادي في الشرق الأوسط الذي تحتاجه الولايات المتحدة لتحقيق التوازن في مواجهة الصين.

إنها عملية "التفاوض الجديدة الكبيرة"؛ التي تطرحها الدراسة، إذ "لا تتجاهل القضية الفلسطينية، وتضمن استقرار أنظمة المنطقة، وإنهاء الصراعات الإقليمية، وتعزّز النمو الاقتصادي، وتحد من الضغوط الداخلية في عديد من دول المنطقة".

ويختم الباحثان طرحهما بالقول: "وحتى تنجح عملية التفاوض الجديدة، لا بد لأمريكا أن تقنع إسرائيل بوقف تورّطها - فيما يراه كثيرون - عقابًا جماعيًا للمدنيين الفلسطينيين، وتعالج محنتهم من الجذور بدلًا من إنكار أسبابها بالمساعدة في خلق مسار مستقبلي نحو الدولة الفلسطينية، والقبول بالحضور الإيراني شريطة تجميد البرنامج النووي، وتقييد وردع الحلفاء الذين تظاهرهم. وبالأخير، على الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء الممر الاقتصادي/التجاري المعين لاقتصادات الشرق الأوسط.. عندها فقط سيحظى الإقليم بالاستقرار، وستتحرّر واشنطن من مسؤولياتها الراهنة.

نحتاج إلى بلورة رؤية عربية متحررة ومستقلة عن "الهندسات" القسرية وصراعات القوى العظمى ومصالح النخب الثروية

بهذه النهاية السعيدة يقدّم الباحثان (الإيطالية ماريا فانتابي مسؤول برنامج المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا التابع لمعهد العلاقات لدولية بروما، والأمريكي من أصل إيراني البروفيسور فالي نصر أستاذ العلاقات الدولية ودراسات الشرق الوسط بجامعة جونز هوبكينز) رؤيتهما حول الشرق الأوسط المعنونة "الحرب التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط"؛ فبالرغم من بعض الانتقادات الهامة التي وردت بها للإدارة الأمريكية، أظنها تثير الكثير من التساؤلات من ضمنها: هل ما طرحته قابل للتنفيذ؟.. وما هي ضمانات تحقيق ما أوصت به؟.. وهل ستقبل القوى المحورية في الإقليم بما طرحته حول دور الوسيط في عملية التفاوض الجديدة الكبيرة؟.. وهل ستقف الصين، الهاجس الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية والخصم المتحفز، دون رد وخاصة أنه قد بات لها استثمارات ضخمة في الإقليم وفي أفريقيا؟.. وماذا عن روسيا التي تساند الصين؟.. وهل الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل ستمر دون حساب؟.

كل ما سبق من أسئلة وغيرها يحتاج إلى إجابات ويدفعنا إلى الاجتهاد في بلورة رؤية عربية طازجة متحررة ومستقلة عن "الهندسات" القسرية، وصراعات القوى العظمى ومشرعاتها، ومصالح النخب الثروية.. إلخ.. رؤية تليق بدم الشهداء وبحق مواطنينا في العيش الحر والمستقل والكريم.

إنّ أهمية ما تطرحه دراسة "فورين أفيرز" هو أنها رؤية تنطلق من مكان مؤثر في الأروقة الاستراتيجية.. لذا لزم التنويه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن