اقتصاد ومال

الصين والوطن العربي: آفاق التعاون الاقتصادي

محمد زاوي

المشاركة

تنتمي الصين والوطن العربي إلى المجال الجيو – ثقافي نفسه، كلاهما جزء من حضارة الشرق بتاريخها القديم والزاخر. بينهما أيضًا علاقات سياسية ودبلوماسية قديمة، وأخرى اقتصادية قديمة. فالصين عرفت الإسلام من خلال القوافل التجارية العربية، أمّا طريق الحرير الصيني فقد كانت له في الجزيرة العربية موانئ. وواضح أنّ استحضار هذه العلاقات والقواسم المشتركة اليوم يستمد مضمونه الجديد من خصوصية العلاقة بين العرب والصينيين في الشرط الحالي. فما هو هذا الشرط بالتحديد؟.

الصين والوطن العربي: آفاق التعاون الاقتصادي

إنّه الشرط حيث انتقال الصين إلى نموذج جديد في التعامل مع الوطن العربي، بل مع العالم ككل. وذلك ناتج عن موقعها الجديد في ميزان القوى الدولي، بعد تراجع الدور الأمريكي في مختلف مناطق نفوذها التقليدية، وأبرزها الشرق الأوسط.

هو تراجع ضروري إمّا أن تقرّره الإدارة الأمريكية بمحض إرادتها، أو أنّ الظروف الجيوسياسية ستفرضه بمختلف الوسائل المتاحة في الشرق الأوسط، كما تفرضه اليوم على الحدود الروسية الأوكرانية.

المفارقة تؤكد أنّه بقدر تراجع الضغط الأمريكي على الدول العربية، تتجه هذه الأخيرة نحو توثيق علاقاتها بالنقيض الأمريكي، الصيني أو الروسي. فالقمم المنعقدة بين العرب والصينيين من جهة، وبينهم وبين الروس من جهة ثانية، تعكس هذا التوجه الجديد.

الصين تستعيض عن النموذج الأمريكي القائم على ثنائية "رابح/خاسر" بنموذج قائم على ثنائية "رابح/رابح"

الدول العربية تسابق الزمن أيضًا، فإذا كان التدخل الأمريكي يواكب سياساته فيها، فإنّه لن يلتزم ذلك حال انسحابه وتراجعه، والهدف إذن مزدوج، التخلص من الضغط الأمريكي من جهة، وتدبير نتائج تراجعه من جهة أخرى.

عرفت العلاقات الاقتصادية بين الصين والدول العربية تقدّمًا ملحوظًا وغير مسبوق، إذ ارتفعت بنسبة 35,28 في المئة في ظرف سنة فقط (2021-2022)، ناهيك عن النقلة النوعية التي عرفتها هذه المبادلات إذا ما قورنت بنظيرتها بداية الألفية الثالثة، أو إذا ما قورنت على الأقل بأخرى عام 2012.

وما يهم في هذا النموذج من العلاقات أنّه قائم على نمط جديد من التفكير الاقتصادي، تطلق عليه الصين "اشتراكية السوق"، وليس ذلك لسواد عيون دول العالم، أو وفاءً لمرجعية أخلاقية في علاقات دولية قائمة على المصلحة، ولكن لأنّ الصين لا تريد تكرار النموذج الأمريكي القائم على ثنائية "رابح/ خاسر"، وتستعيض عنه بنموذج قائم على ثنائية "رابح/ رابح"، فهذا النموذج في نظر الصين يجعلها تستفيد من علاقاتها الدولية دون أن تؤسّس اقتصادها على "الهيمنة"؛ أو لنقل على هيمنة فجة، لأنّ الهيمنة حاصلة بشكل أو بآخر. فالتفاوت بين اقتصادين ينتج العجز عند التبادل، وهذا أقلّ ما يمكن أن يتحقق من الهيمنة بين طرفين يتفاوتان اقتصاديًا. لا تقف أمريكا عند هذا الحد، بل تفرض عملة التبادل ونوع الإنتاج وتحتكر القرار الاقتصادي وتتحكم في الإنتاج وتضعف الاقتصادات الوطنية، لذلك تفضل الدول العربية النموذج الصيني.

وتفضل الصين نموذج "رابح/رابح" لأنّ الهيمنة الفجة لا تخدمها، بل تهدد النموذج السياسي الصيني. تحرر الرأسمال من يد الدولة، وهذا مشكل يؤرق بال "مهندسي" الدولة الصينية كثيرًا. فـ"الرأسمال هو الرأسمال"، سرعان ما ينفلت إذا توفرت له شروط ذلك. وإنّ الدولة الصينية التي أسّست نموذجًا خاصًا في الانفتاح مع "دينج شياو بينغ"، تخاف من تحوّل هذا النموذج إلى نموذج غربي يضعف قبضة الحزب الشيوعي على الدولة. وهنا تظهر أهم نقطة مشتركة بين دول الوطن العربي والصين، أي حاجتهما معًا إلى مركزة السلطة على النقيض من النموذج الغربي الذي يسعى إلى إضعافها وتفكيكها لصالحه، لا لصالح الشعوب كما يدّعي!

عمومًا، يرتكز التعاون بين الصين والوطن العربي على عدد من المجالات، أبرزها:

ــ النفط والغاز: هنا يمكن الحديث عن علاقة الصين بدول الخليج، كالإمارات والسعودية (تصدير النفط إلى الصين) وقطر (تصدير الغاز المسال)، كذلك الجزائر (الغاز المسال).

توفر هذه المبادلات سوقًا شرقية لتصدير النفط العربي، حتى لا يبقى حكرًا على السوق الغربية وما تفرضه من قيود مالية واقتصادية على التبادل. ويمكن أن يشمل التبادل بين الطرفين - الصين والوطن العربي - إمداد العرب بالخبرة والتقنية من قبل الصينيين، لتطوير تصنيع البترول وتنويع الاقتصاد إلى غير ذلك من الأدوار التي لم تلعبها أمريكا طيلة ستة عقود من سيطرتها على العالم.

ــ انفتاح السوق العربية: يتجاوز عدد سكان الوطن العربي 430 مليون نسمة، وهو أمر انتبهت له الصين منذ مدة، قبل أن "يغزو" المنتوج الصيني الأسواق العربية بداية الألفية الثالثة. وما يميّز السوق العربية هو أنّها ذات قدرة تصنيعية أضعف إذا ما قورنت بحاجة الإنسان العربي، وهذا ما يجعلها سوقًا مغرية للصينيين وغيرهم. فمن جهة هي سوق قابلة لتسويق المنتوج الاستهلاكي، ومن جهة أخرى فهي قابلة لتسويق الخبرة والتقنية وما به يتحقق التصنيع ويتقدّم.

تستفيد الدول العربية من انفتاحها على الخبرة والمنتوج الصينيين لأنّها تحتاج إلى منتوج يملأ فراغ التصنيع، كما هي في حاجة إلى تقنية ينحسر معها الفراغ ذاته. الانفتاح على الغرب لا يفيد بل يكرّس التبعية ومنطق الاستهلاك، الانفتاح على الصين قد يحقق بعض المكاسب إذا ما أحسنت الدول العربية استثمار التناقضات الدولية، ورغم ما قيل، لا تعطي الصين من محض إرادتها، وفي هذا المجال دون ذاك!

ــ العلاقات النقدية: من أساليب "الاستعمار الجديد"، تلك السيطرة الاقتصادية الغربية التي خنقت أنفاس العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ومن وسائل هذه السيطرة "التبادل اللامتكافئ" - بتعبير المفكّر الاقتصادي سمير أمين - الذي يفرزه تبادل الدول بعملة المسيطِر على الاقتصاد الدولي، وهي الدولار الذي يتلقى اليوم ضربات نقدية واقتصادية غير مسبوقة. إنّ إقامة التبادل على أساس عملات جديدة كالروبل الروسي أو اليوان الصيني أو عملات وطنية أخرى، من شأنه أن يكسر غطرسة "العولمة النقدية"، وبذلك يخف الضغط على العملات الوطنية فتنتعش اقتصاديًا وتجاريًا، وهو ما تستفيد منه الصين بتراجع الدولار الأمريكي، كما يستفيد منه الوطن العربي بتراجع معدلات التضخم وارتفاع قيمة العملات الوطنية.

هل الصين مستعدة لتحويل خطتها من خطة لنقل البضائع ورؤوس الأموال إلى خطة لنقل الخبرة والتقنية؟

وفي هذا الإطار تندرج سياستان اقتصاديتان تشرف عليهما الصين في الوطن العربي، المقصود: إنشاء أبناك في المنطقة للتعريف بعملتها والإشراف النقدي على استثماراتها ومبادلاتها، وممارسة التبادل بالعملة الصينية "اليوان".

ــ مبادرة "الحزام والطريق": وهي المبادرة التي أعلنتها الصين عام 2013، بهدف تسويق منتوجها الاقتصادي، ومعه الثقافي والسياسي، للعالم. تراهن الصين على الوطن العربي في تمديد خطتها "الحزام والطريق"، وذلك لموقعه الاستراتيجي وتوفره على ممرّات بحرية (قناة السويس، باب المندب، جبل طارق، هرمز، تيران) ومعابر برية ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للصين، بل إنّ "بلاد التنين" مستعدة لتطوير البنية التحتية لعدد من الحواضر العربية، مستعدة أيضًا لبناء الموانئ وتشييد المحطات العملاقة لنقل منتوجاتها وتيسير تبادلاتها التجارية، ولكن هل الصين مستعدة لتحويل خطتها من خطة لنقل البضائع ورؤوس الأموال إلى خطة لنقل الخبرة والتقنية؟.

هذا سؤال يجب أن تلح على طرحه العواصم العربية، حتى لا تُستَلب في تطوير البنيات التحتية. هذا التطوير مهمٌ، ولم يقدم عليه الغرب طيلة سيطرته على المنطقة؛ إلّا أنّه يجب أن يكون البداية لا النهاية التي تكتفي بها الدول العربية في علاقتها بالجانب الصيني!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن