بصمات

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/1)

مثل كل المصطلحات والمفردات المترجمة عن اللغات الأجنبية، فإنّ مصطلح "حداثة" يشترك مع مصطلحات أخرى كثيرة، بأمرين، الأول: تأخر ظهوره في اللغات الأوروبية (الفرنسية والإنكليزية) وبالتالي تأخر دخوله إلى عالم اللغة العربية، والثاني هو تعدد التعريفات، وهذا الأمر بحد ذاته يرجع إلى أن الحداثة مسار طويل يعيده بعض الباحثين إلى القرن الرابع عشر، ويعيده بعض آخر إلى مراحل لاحقة. وهذا المسار متعلق بأوروبا، وما شهدته من تطورات في مجالات التقنية والأفكار والفنون والعمارة والصناعة وحقوق الانسان، ومن جهة أخرى بروز الاتجاهات العقلانية والتنويرية والنهضوية.

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/1)

إنّ التفكير الأوروبي، يعتبر أنّ الإنسانية قد شهدت حداثة واحدة نقلتها من سيطرة الأفكار الدينية والغيبية إلى نور العقل. وأنّ الحداثة قد شملت كل جوانب الإنتاج الإنساني. يهمل التفكير الأوروبي ما أخذته أوروبا عن "الحضارات" السابقة، ولا يأخذ بالاعتبار أنّ الإنسانية قد عرفت حداثات سابقة (يونانية، عربية) لما شهدته أوروبا منذ عصر النهضة الذي هو الآخر غير متفق على بدايته.

لقد تأخر دخول مصطلح حداثة إلى عالم اللغة العربية إلى ستينات القرن العشرين، ولكنه استُخدم للإشارة إلى الحداثة الأدبية وبشكل خاص الحداثة الشعرية، وكان مرجع حداثيي الشعر، عزرا باوند و. ت. س. اليوت، الأمريكيين، ثم سان جون بيرس الفرنسي. ولأنها اقتصرت على هذا المجال، فإنّ الدعوة الحداثية كانت موضع نزاع حول مفهوم الشعر وقصيدة النثر، وتحوّل الجدال إلى مجال الأيديولوجيا والسياسة.

الحداثة هي ضد الجمود والتقاليد، إنها الحديث والجديد والراهن والمعاصر والتطلّع إلى المستقبل

وعاد مصطلح حداثة ليطل في نهاية القرن العشرين من خلال ما بعد الحداثة، أي أنّ العرب، في وقت كانوا ما زالوا يبحثون عن إنجاز (حداثتهم)، جاء نقد الحداثة ليضاعف من مأزق تعريف الحداثة. إذ إنّ ما بعد الحداثة، عرّفنا بطريقة نقدية على أُسُس الحداثة التي ترتبط بالسرديات الكبرى القائمة على العقل، ومنها مفاهيم الحرية والمساواة والتنوير. ومن المفيد أن نذكر أنّ نقد الحداثة قد بدأ مع الحركة الأدبية - الفنية السريالية وسابقتها الدادية، التي استفادت من التحليل النفسي وتجاوز العقلانية، إلا أنّ النقد الأشد للعقلانية جاء بعد الحرب العالمية الثانية، عبر السؤال: كيف يمكن للعقلانية الغربية أن تؤدي إلى كل هذا العنف والقتل والإبادات الجماعية.

بالعودة إلى المصطلح ومن الناحية التاريخية يمكن الرجوع إلى بداية القرن السادس عشر مع بزوغ الفلسفة الحديثة مع رينيه ديكارت ومقالة الطريقة، وباروخ سبينوزا في الرسالة اللاهوتية السياسية، ثم جون لوك في مقالتان في الحكم المدني، وقبل ذلك مكيافللي في الأمير الذي هو التفكير الجديد في السياسة مع هوبس في اللوايثان. وبعد ذلك فلاسفة الأنوار الفرنسيين ومقالة كانط ما هو التنوير؟ وصولًا إلى الثورة الفرنسية وشعاراتها.

الحداثة هي أيضًا في التقنيات التي بدأت في الظهور قبل القرن السادس عشر مع اختراع الساعة والنظارات الطبية واستنباط الطباعة، وصولًا إلى التجارة والصناعة. الحداثة بالنسبة للاقتصاديين هي الرأسمالية، وبالنسبة لعلماء السياسة هي الليبرالية والديمقراطية، وبالنسبة لعلماء الاجتماع هي عقلنة سلوك الجماعات وصراعاتها.

وبالعودة إلى ما قبل القرن السادس عشر، فإنّ فنون عصر النهضة التشكيلية وفنون العمارة ثم الموسيقى هي أيضًا مؤشرات إلى الحداثة. بهذا المعنى فإنّ الحداثة قد شملت السرديات الكبرى، الحرية والوطنية والديمقراطية.

الإشارة المبكرة إلى أنّ شيئًا ما يحدث في أوروبا ترجع إلى ابن خلدون حين ذكر أنّ أسواق العلم في أوروبا مزدهرة

ومن حيث التعريف فإنّ الحداثة هي ضد الجمود والتقاليد، إنها الحديث والجديد والراهن والمعاصر، والتطلّع إلى المستقبل.

وبقدر ما كانت الحداثة تطلّعًا إلى المستقبل، فإنها اخترعت علم التاريخ وعلم الآثار والأنثروبولوجيا الطبيعية. وبدون أن ندخل الآن في نقد الحداثة وما بعدها. من الضروري أن نذكر بأنّ التنوير والعقلانية كانت أدوات أوروبا الاستعمارية، واستغلال العالم غير الأوروبي.

إنّ الإشارة المبكرة إلى أنّ شيئًا ما يحدث في أوروبا ترجع إلى ابن خلدون (ت1406) في مقدّمته حين ذكر أنّ أسواق العلم في أوروبا مزدهرة. لنعود، فنقرأ عبارة ملهمة لأخذ الأتراك ترجع إلى مطلع القرن السابع عشر، حول السيطرة التجارية لأوروبا التي ستؤدي إلى سيطرتها السياسية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن