لمّا كان الخطاب يعني نسقًا من العلامات المُنتظمة في تشكيلةٍ خطابيةٍ تعكس وجهة نظرٍ ما، قد لا تكون صريحةً أو مباشرةً لاقترانها بسياقاتٍ ورهاناتٍ معيّنة، فإنّه يسعى إلى ترويج فكرة احتكاره للحقيقة وامتلاكها. لذا لا بدّ من إخضاع مقولات كلّ خطاب للمساءلة والنقد والتمحيص. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ الخطاب السياسي العربي، إذا اعتمدناه مؤشّرًا في دراسة الحالة العربية الراهنة، يعكس أزمةً خانقةً ما فتئت تتفاقم إلى أن بلغت ذروتها في المرحلة الراهنة.
"ليس بالإمكان أفضل ممّا كان" حكمةٌ مصطنعةٌ للتعمية على الاستحقاقات وفي مقدّمتها تحديث الحياة السياسية
يمكن رصد ملامح أزمة الخطاب السياسي العربي الرّاهن في أكثر من مستوى. ففي مستوى البنية الخطابية تبدو سِمَتا الرثاثة والتكلّس بارزتَيْن للعيان، إذ ما زالت لغة ذلك الخطاب خشبيةً بألفاظها الرثّة وهيمنة صيغها الإنشائيّة البالية بدل حضور صيغ الإنجاز والبناء والتشييد والتعمير. لذا لا عجب من ملاحظة استحواذ المنطق الاتّهامي نفسه الذي ظلّ يوجّه نسق الخطاب السياسي العربي منذ ستينيّات القرن الماضي، وتَكرُّر مفهوم "المؤامرة" وما يتّصل به من مرادفات ومتمّمات مثل "التخوين" و"الانشقاق" و"الفلول" و"العصابات المأجورة" وغير ذلك من العبارات المشروخة.
يستند ذلك الخطاب المترّهل إلى سرديةٍ مُجترّةٍ لا تسأم أبدًا من تعميم تصوّرها التنميطي للنّخب والرأي العام على أساس ثنائية الموالاة والمعاداة أو الأنصار والخصوم. وقد أتلف ذلك التصوّر التنميطي أيّ إمكانيّة للتبصّر العقلاني في تدبير السياسات العامة. فيتمّ الترويج لحكمةٍ مصطنعةٍ مفادها "أنّه ليس بالإمكان أفضل ممّا كان" للتهرّب والتنصّل من الاستحقاقات المشروعة والتعمية عليها، وفي مقدّمتها تحديث الحياة السياسية تحديثًا فعليًّا في مستوى تكريس قيم النزاهة والشفافية والحوْكمة الرشيدة والتداول السلمي على السلطة في إطار التعدّدية والديموقراطية.
إيثار المصلحة العامة المشتركة بدل المصالح الفردية مدخلٌ مُهمّ لتوجيه بوصلة الخطاب العربي إلى الوجهة الصحيحة
يعكس اهتراء الخطاب السياسي العربي حالة فصامٍ عقليّ أو ما يُعرف بـ"الشيزوفرينيا"، إذ يبدو خطابًا مضطربًا متذبذبًا، يفتقر للتماسك، تحكمه الارتجاليّة والشخصنة ضمن رؤية تستبلِه أو تستصغر المتقبّلين وتنظر إليهم بصفتهم بُلهاء ساذجين يمكن مخاتلتهم ومخادعتهم والتلاعب بهم من دون التفطّن إلى سلسلة المفارقات التي يقع فيها ذلك الخطاب جرّاء تناقضاته الكثيرة بين المعلن والمضمر والظاهر والباطن والواجب والحاصل والواقع والمنشود. ولعلّ التطبيق المشوّه لمرتكزات العقلانيّة والديموقراطية أمثلة حيّة تُلخّص واقع الخطاب السياسي العربي الراهن.
إنّ إعادة النظر في ذلك الخطاب ومراجعته مراجعةً جذريةً تُعَدُّ أولويةً قصوى للارتقاء به بما يستجيب لحجم التحدّيات الراهنة. ويبدو أنّ استعادة مفهوم السياسة بصفتها فنّ الممكن في إدارة الشأن العام، وإيثار المصلحة العامة المشتركة بدل المصالح الفردية المرتبطة بعقليّة "الغنيمة" قد يكون مدخلًا مُهمًّا لتوجيه بوصلة الخطاب السياسي العربي إلى الوجهة الصحيحة المُتمثّلة في تحقيق تطلّعات الشعوب العربية في العيش بكرامةٍ وعزّة، وحقّها في تقرير المصير.
انخراط الخطاب السياسي العربي ضمن مشروع التكامل على أساس المصالح من شأنه توسيع آفاقه نحو مستقبل أفضل
ولئن كان يُخيّل لبعضهم أنّ قوّة الخطاب ترتبط أساسًا بكاريزما موهومة، فإنّ هذا الادّعاء لم يعُد له معنى. ذلك أنّ الخطاب السياسي المعاصِر الناجح تتويج لمسارٍ طويلٍ من التطوّرات والتحوّلات التي تتحقّق بفضل الحريّة المسؤولة والمأسَسة، التي تعني تكامل خبراتٍ مُتعدّدةٍ ضمن مراكز الفكر الاستراتيجي وفق مصالح الأمّة الحيوية وليس لتأبيد "الصّنم" أو "الوثن".
إنّ الوعي بطبيعة التغيّرات النوعية التي يفرضها العصر الرقمي الجديد يُعزّز القناعة في أنّ احتكار المعلومات أو التعتيم على الحقائق وإخفاءها لم يَعُد ممكنًا. وهو ما يتطلّب تسلّح الخطاب السياسي بالجسارة والجرأة في الإصداع بالحقائق مهما كانت قاسية. ولا شكّ أنّ ذلك التحوّل المأمول يستدعي نقلةً مفاهيميةً جديدةً ترفع اللّبس الحاصل بين مفاهيم العقلانية والانهزامية والمقاومة والإرهاب والتلاقح والاستلاب وغير ذلك من المفاهيم الدائرة في ذلك المدار. كما أنّ انخراط الخطاب السياسي العربي ضمن مشروع أوسع وأبعد مدى مثل مشروع التكامل العربي على أساس المصالح المُتبادلة بدل الشعارات الجوفاء المُضلّلة من شأنه توسيع آفاقه نحو مستقبل أفضل.
(خاص "عروبة 22")