الحوكمة والديموقراطية

الديموقراطية.. باعتبارها ممارسةً يومية!

عادةً ما يذهب تفكيرنا حين نسمع أو نقرأ كلمة "ديموقراطية"، إلى صناديق الاقتراع في مواعيد موسميّة، ويخطر على أذهاننا التنافس بين حزبَيْن أو أكثر ولكلّ حزب برنامجه. ولفترةٍ طويلةٍ كان التنافس بين اليسار واليمين في أوروبا، وبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة الأميركية. إنّ الوجه الإيجابي في الموضوع هو حقّ كلّ المواطنين في هذه الممارسة الديموقراطية، التي قد تتّسع لتشمل انتخابات الرئاسة، ونواب الشعب، والحكّام، والقضاة.

الديموقراطية.. باعتبارها ممارسةً يومية!

إنّ الديموقراطية هي تكافؤ الفرص، الذي لا يعني فقط حقّ كل مواطن في ممارسة حقّه باختيار ممثليه، ولكنّ تكافؤ الفرص هو أن يكون للمقترعين حقّ الحصول على الخدمات الأساسيّة مثل العمل والتعليم والضمانات التي تتفاوت من بلدٍ إلى آخر.

وعدا عن المناسبات التي يكون فيها الصراع مُحتدمًا، فإنَّ نسب الاقتراع تتفاوت بحيث نجد دائمًا أنّ نسبًا مرتفعةً من المواطنين تستنكف عن ممارسة هذا الحقّ، ليس لعدم الإيمان بمبدأ الديموقراطية، ولكن لاعتبارهم أنّ هذه الممارسة هي روتينية، وأنّ الفائز إنْ كان من هذا الفريق أو ذاك، فإنّه محكوم باعتباراتٍ تخرج عن البرامج المُقترحة والتي عادةً ما تكون مبنيةً على الوعود أكثر مما تؤكّد حقائق ملموسة. والأرجح أنّ النسبة العالية من المُمتنعين عن ممارسة حقّ الاقتراع، ليس اعتراضًا على العملية الديموقراطية، بل لأنّهم يعتبرون أنّ حقوقهم تصلهم في الخدمات الأساسيّة، وإنْ حسبوا أنّ بعض حقوقهم لم تصلْ، فإنّ الاقتراع لن يؤدّيَ كثيرًا إلى رفع مستوى الخدمات.

الديموقراطية ليست انحيازًا إلى خط سياسيّ أو برنامج ولكن هي في التنافس على تقديم الخدمات

العملية الديموقراطية هي عملية سياسيّة بالدرجة الأولى تُحفّز مناصري الأحزاب على الحشد لها، بينما أولئك الأقل تسيّسًا وتحزّبًا فإنّهم يُعبّرون عن لامبالاة بالتحيّز الحزبي. وقد عبّرت أحزاب الخضر عند نشوئها عن أولئك الذين يرون أنّ الأولوية هي لنوع الحياة وليس لنوع السياسة.

انتقلت الممارسة الديموقراطية - الانتخابية إلى البلدان المُستعمَرة فنشأت الأحزاب التي كانت أشبه بنوادٍ سياسيةٍ تعبّر عن النّخب الوطنية والسياسية. والواقع أن أغلب بلدان العالم كانت تمارس الديموقراطية النّخبوية التي لا يحقّ سوى للملاكين ممارستها، على سبيل المثال دون النساء. وبشكلٍ عامّ فإنّ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت ما سُمي بالانتخاب العام (Suffrage Universel) الذي يشمل كل المواطنين دون استثناء رجالًا ونساء.

عبّر هذا النوع من الانتخاب عن تطوّرٍ في الذهنيات في أوروبا نفسها، إذ إنّ الديموقراطية لم تعد نخبويةً، ولكنّها أصبحت للعموم (الشعب). وهو ما يُضفي طابعًا اجتماعيًا، فالعملية الانتخابية تعبير عن مساواةٍ تعكس من حيث المبدأ ثقافةً بين المواطنين في الحقوق، والواجبات، والفرص، والخدمات.

الديموقراطية ذات أوجه متعدّدة سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية

إنّ ديموقراطية الخدمات هي التي كان لها الأثر الأكبر في تطوير مفهوم الديموقراطية. فالديموقراطية ليست انحيازًا إلى خطٍّ سياسيّ أو برنامجٍ، ولكن هي في التنافس على تقديم الخدمات التي تبدأ بإيصال الماء والكهرباء إلى الأرياف في "بلداننا"، وافتتاح المدارس والمستوصفات في كلّ المناطق من دون تمييز، وفي اتّساع الطبقة المتوسطة، التي تشمل دوائر التعليم والعمل في مؤسّسات الدولة الناشئة، أو في المصالح التجارية والخدماتية ومؤسّساتها الخاصة.

لا يمكن تخيّل نظامٍ ديموقراطيّ من دون حكم القانون، بحيث لا يمنح المُنتَخبين الذين أصبحوا في السلطة سوى ضماناتٍ موضعية يحدّدها القانون نفسه. فجميع المواطنين حكّامًا ومحكومين يخضعون لقانونٍ واحدٍ يضمن العدالة والمساواة بين أبناء البلد الواحد. من هنا، فإنّ حكم القانون ومساواة المواطنين وخضوعهم لقانونٍ واحدٍ، يعني حُسن توزيع الخدمات الأساسيّة وفرص العمل والتعليم والصحة.

والحصانة التي يمنحها الفوز للمنتَخبين، ليست سوى حصانة معنوية ومؤقتة، لم تمنع من إحالة رؤساء جمهوريات وحكومات في عددٍ من البلدان إلى المحاكمة بعد خروجهم من السلطة. يعود ذلك إلى فعّالية الديموقراطية، بالمقارنة مع الأنظمة، التي تجعل المسؤولين فوق المحاسبة والمساءلة.

وعلى هذا النحو، فإنّ الديموقراطية ذات أوجه متعدّدة سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية، ضمن مبدأ المساواة وحريّة التعبير وتكافؤ الفرص.

الديموقراطية هي ممارسة يومية تعني أنّ المواطن يشعر كلّ يوم بأنّ حقوقه مُصانة

وللديموقراطية وجهٌ وطنيّ، فهي أعلى أشكال الممارسة الوطنية. وهي ذات طابع رمزي حين يشارك كلّ المواطنين في بلدٍ واحدٍ في اليوم نفسه هذا الحق الذي يُعيد إنتاج حقوق المواطن في اختيار ممثليه، وإن عبّرت عن انقسامٍ بين اتجاهاتٍ متعارضةٍ، فإنّ الممارسة الديموقراطية هي تأكيد الوحدة على الرَّغم من الانقسام السياسي.

وفي جميع الأحوال، لا بدّ من ملاحظة أنّ صندوق الاقتراع هو نهاية العملية الديموقراطية. لأنّ الديموقراطية هي ممارسةٌ يوميةٌ تعني أنّ المواطن يشعر كلّ يوم، ومهما اختلفت نتائج الانتخابات، بأنّ حقوقه مُصانة على الرَّغم من كل الشوائب التي يمكن إحصاؤها في البلدان التي تمارس الديموقراطية الفعلية وليس الزّائفة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن