ويقول الباحث اليمني المتخصّص في الآثار عبدالله محسن لـ"عروبة 22" إنّ العام 2023 كان الأكثر مأساوية فيما يخص التهريب والعبث بالمواقع الأثرية، إذ لم يعد ذلك حكرًا على المهرّبين وعصابات الآثار، بل تعداها حتى إلى شركات الهاتف المحمول التي أدت عمليات نصب أبراجها إلى تدمير عدد من المواقع الأثرية جزئيًا أو كليًا، حيث أدى قيام إحدى الشركات ببناء ثلاثة أبراج للاتصالات في موقع "زبران" الأثري في مديرية التعزية، إلى تدمير الموقع، كما تعرّض حصن "ضاف" الأثري في مديرية جهران بمحافظة ذمار، إلى التخريب والتدمير نتيجة قيام شركة حكومية للهاتف المحمول باستخدام الحصن لبناء مكوّن خرساني يحمل أبراج الاتصالات.
وبالإضافة إلى ذلك، يبيّن محسن الذي يتولى مهمة متابعة بيع القطع الأثرية المهرّبة ورصد العبث بالمواقع، أنّ التشكيلات العسكرية للأطراف المتصارعة قامت بتحويل بعض المواقع الأثرية إلى ثكنات ومواقع عسكرية وخنادق وعنابر وأبراج مراقبة وأبراج حماية، كما تم شق الطرق العسكرية داخل المواقع الأثرية باستخدام المعدات الثقيلة، ولعل أبرز مثال ما حدث لمدينة "براقش" عاصمة الدولة المعينية في محافظة الجوف، "ودرب الصبي"، حيث تعرّضت لتدمير كبير لا يوصف، وتم بناء عنبر طويل داخل المعبد المركزي وقد استُخدمت أعمدة المعبد في بنائه، كما استُحدثت العديد من الإنشاءات بما في ذلك "مقبرة".
ووثّق الباحث اليمني نفسه تعرّض أهم أربعة معابد في اليمن إلى عبث ونهب وتدمير، أوّلها معبد "أوام" الذي تعرّض لسرقة عدد من النقوش وسط إهمال متعمّد من السلطات في مأرب، ومعبد "أوعال صرواح" الذي امتدت إليه أيادي العابثين، واستُخدم لإقامة فعالية جماهيرية وتعرّض مخزنه لسرقة الكثير من الآثار.
وفي محافظة الجوف، يذكر محسن أنّ معبد "نكرح" تعرّض للحفر العشوائي الواسع والتخريب بعد أن كان قد دُمّر في قصف جوي سابقًا، كما وتعرّض معبد "عثتر ذو قبض" إلى واحدة من أكبر عمليات النهب للمواقع الأثرية في العام المنصرم. ويقدّر عدد المواقع الأثرية التي تعرّضت للحفر العشوائي في العام 2023 بالمئات، في مقدّمتها مواقع الجوف وشبوة وصنعاء وعمران ومأرب وتعز وأبين وإب. ومنها على سبيل المثال، موقع الحد الأثري في يافع، وموقع موكل صباح وموقع المعسال الأثري في البيضاء، وجرن بيت غزوان وموقع قنيهبه وموقع الذنابة الأثري في المحويت، والتل المحروق وجبل كنن في خولان.
وإذ يؤكد استمرار تهريب الآثار من اليمن بوتيرة الأعوام السابقة نفسها، لم يرصد الباحثون أيّ تحسن في إجراءات المنافذ الجمركية لمنع التهريب، ولم تتبنَّ الحكومة ووزارة الثقافة وهيئة الآثار والوزارات ذات العلاقة أي استراتيجية لمنع التهريب واسترداد الآثار المهرّبة. وشهدت المزادات الدولية تواجدًا ملفتًا للقطع الأثرية اليمنية خلال العام المنصرم، ويمكن ربط ازدياد الآثار المعروضة في المزادات بعدد الانتهاكات للمواقع الأثرية.
وخلال الشهرين الماضيين رصد مختصون تمكّن عصابة من تهريب أشكال متعدّدة ومختلفة من القطع والتماثيل والمنقوشات والمخطوطات الأثرية؛ حيث تم عرض بعضها للبيع تباعًا، بمزادات علنية في دول عربية وغربية، حيث عُرض مجسّم نسائي استثنائي ونادر مع نقش مسند ومجموعة من التحف القديمة، على منصة "كاتاويكي" للمزادات عبر الإنترنت.
الهيئة العامة للآثار والمخطوطات تؤكد من ناحيتها، أنّ غياب مؤسسات الدولة نتيجة الحرب، إضافة إلى شح الإمكانات المالية، وفّرا مناخًا مناسباً لكل الجهات التي تعمل على تهريب وبيع الآثار. وطالبت باصطفاف مجتمعي من أجل حماية التراث اليمني، مشيرةً إلى أنّ 25 متحفًا في البلاد تضرر بفعل الحرب كليًا وجزئيًا، كما تضرّر 48 مبنى أثريًا في مدينة عدن وحدها.
وحسب بيانات هيئة الآثار، فإنّ بعض المباني الأثرية تمّت تسويتها بالأرض مثل جامع الحسينية الخاص بطائفة البهرة في عدن، والمتحف الحربي الذي تضرّر تضررًا جزئيًا في الجهة الشرقية منه، إضافة إلى مبنى قصر العبدلي (المتحف الوطني) الذي تضرّر أيضًا جزئيًا بسبب الاشتباكات المسلّحة التي حصلت في مدينة عدن. كما تضرّرت مئات من المباني في صنعاء القديمة وشبام حضرموت وزبيد بسبب الفيضانات التي شهدتها البلاد خلال العامين الماضيين.
وفي محافظة اب سجّل المختصون تعرّض عدد من المعالم الأثرية للتعدي والحفر العشوائي والنهب على أيدي عصابات متخصّصة بتهريب الآثار والمتاجرة بها، ومنها موقع "العصيبية" في عزلة جبل عصام بمديرية السدة، وجبل "الرئسي" في عزلة حبير بمديرية ذي السفال، وضريح "الحداد" في عزلة عينان في مديرية السبرة، وحصن "العرافة" بمدينة ظفار التاريخية، وموقع "مريت" الأثري في السياني، وقبة وسد "يُم" في العدين، وباحة "جامع العمري" في المشنة، وجبل "العود" التاريخي في مديرية النادرة.
وذكر عاملون في قطاع الآثار أنّ تلك المواقع وغيرها في المحافظة التي كانت عاصمة للدولة الحميرية (ظهرت عام 24 ق.م.) لا تزال تشهد عمليات نهب وتنقيب عشوائي، بحثًا عن آثار ونقوش قديمة من قبل عصابات الآثار؛ حيث أدى الفقر وصعوبة الحياة إلى اتساع قاعدة الأشخاص الذين يقومون بالنبش والعبث في المواقع الأثرية بحثًا عن كنوز ذهبية مفترَضة، في ظل غياب أي دور للجهات الحكومية في حماية هذه المواقع أو ملاحقة المتورطين بالعبث فيها.
ومع أنّ اليمن أصبح جزءًا من البروتوكول العالمي الذي يمكّنه من استعادة القطع الأثرية المسروقة، إلا أنّ الهيئة العامة للآثار لا تمتلك قاعدة بيانات لما تم نهبه من قطع أثرية، وذكرت أنه كان لديها مشروع لعمل قاعدة بيانات وطنية لكل ما تحتويه المتاحف لكن المشروع لم يكتمل بسبب الحرب.
وحسب المسؤولون في الهيئة، فإنّ بعض المتاحف تفتقر لقاعدة بيانات موثّقة، لذلك لا يُعرف حجم الأضرار التي طالتها، كما أنّ تداعيات الحرب أثّرت سلبًا على التراث الثقافي وعلى مختلف مجالات الحياة في البلاد، حيث تعرّضت المتاحف في عموم الجمهورية لأضرار مختلفة، فبعضها تضرّر كليًا ودُمرّت مبانيه مع كامل محتوياتها، وأخرى تعرّضت لأضرار جزئية.
ورغم شحّ الإمكانات وظروف الحرب نجحت الهيئة في إبرام اتفاق مع اليونسكو والاتحاد الأوروبي لمساعدتها على تنفيذ مسح أولي للمباني التي تضرّرت من الحرب، وقد بدأ تنفيذه من العام 2018.
(خاص "عروبة 22")