مـا كـان الإسـلام - منـظـورًا إلـيـه مـن هـذه الزّاويـة - مجـرّد عـقـيـدةٍ تـمـثّـل ينبـوعًا لا ينـضـب من الطّاقـة الرّوحـيّـة والإيـمانـيّـة، تـزوّدت بهـمـا الجـماعـةُ الديـنـيّـة وبـهـما وطّـدت شعـورها الديـنـيّ، بـل كـان - إلى جـانب ذلك - الإطـار المـرجـعيّ لـكـلّ مشـروع نـهـضـويّ وحـضاريّ في تـاريـخ الأمّـة، وحـافـزًا فـاعـلًا للسّـيـر فيه وقـطْـع أشـواطـه بـثـقـةٍ واقـتـدار. كـان الإسـلام وراء ميـلاد أمّـة، وكـان بـاعـثَ تلك الأمّـة على صـنـاعـة حـضارةٍ تـليـق بـهـا.
على أنّـه كـان ثـمّـة عـامـلٌ ثـانٍ، إلى جـانـب الإسـلام، زَوَّد مشـروع البناء الحـضاريّ بالمـوارد المناسبـة الخليقـة بالتّمـكيـن له وتـوفيـر المداميـك والمرتكزات. نعني هـنـا، على وجـهٍ مـن التّحديـد، الآثـار الإيـجابـيّـة التي ولّـدتهـا عـلاقـاتُ الـتّـثـاقُـف التي انـتـظـمت بين الثّـقافـة العربيّـة وسـواهـا مـن الثّـقـافـات المحيطـة أو المحايِـثـة للاجتماع الإسـلاميّ.
التفاعل بين ثقافة وأخرى لا يكون إلا متى نشأت حاجة في ثقافة ما إلى موارد جديدة من خارجها
لـم يـكـن ذلك التّـثـاقُـف تـفصـيلًا اعـتـياديًّا في تاريـخ الإسـلام - مثـل أيّ ظـاهـرة أخـرى قـد تكـون عـابـرةً فيـه فـلا يتْـرُك زوالُـها أثـرًا يُـذكَـر - وإنّـما شَـغَـل حـيِّـزَ الفـاعـلِ الأكـبـر في تـنـمية أسبـاب الأَلَـقِ والفَـرادة في البـنـيان الحضـاريّ العـربيّ الإسـلاميّ؛ حتّـى أنّـه قـد يتـعـسَّـر على البـاحـث في المسـألـة أن يـتـخـيّـل إمـكـانًـا تـاريـخيًّـا لذلك البـنـاء الحضاريّ - الذي قـام لـه صـرْحٌ واستطالَ زمـنـًا - مـن دون أثـرٍ فـاعـلٍ من عـملـيّـة التّـثـاقُـف تلك.
هـل كـان التّـثـاقُـف ذاك أمـرًا حتـميًّـا ومعـطًـى مـوضوعـيًّـا لا مـهـربَ لـعـرب العـهـد الكـلاسيكيّ مـنـه، أم أتـى ثـمـرةَ إرادةٍ ذاتـيّـةٍ سـعـت إليـه ثـمّ سـعـت فيـه إذْ هـي بَـلـغـتْـه؟ مـن البـيّـن أنّ السّـؤالَيْـن مـخـتـلـفـان ويشـيـران، بالتّـالي، إلى واقـعَـيْـن على طـرفـيْ نـقيـض حتّى وإن كـان يـمـكن أن نَـرْمُـقَ وجـوهًـا مـن الصّـلـة - أو حتّى مـن التّـرابـط غـيـرِ الظّـاهـر - بيـن الحـاليـن:
حـسـبـانُ التّـثـاقُـف ذاك مـن بَـداهـات التّـطـوّر المـوضوعيّ افـتـراضٌ مَـأْتـاهُ مـن النّـظـر إلى شـرطٍ مـوضوعـيّ للـتّـثاقُـف: وجـود ثـقـافاتٍ مُحيـطـة بـعـالَم الإسـلام أو نـاشـطـة داخـل الاجـتـماع العـربيّ الإسلامـيّ وحـتمـيّـةُ تـوليـدِ آثارهـا في وعي العـرب والمسلمين. ومـا من شـكٍّ في أنّ هـذا شـرطٌ مـوضوعيّ يـفـرضـه الاحـتـكـاك العامّ للأمّـة والجماعـة بتلك الثّـقـافـات المحيطـة. غـير أنّ وجـود العـرب والمسلميـن في حـالٍ مـن التّـجاور المـكـانيّ مع تلك الثّـقـافـات ليس يـكـفـي، وحـده، لكـي تـتـولّـد منه عـملـيّـةُ تـبادُلٍ ثـقـافـيّ (تـثـاقُـف)؛ فـهـذه لا تـأتـي إلّا مـن طـريق تـفـاعـلٍ بين ثـقـافـةٍ وأخـرى لا بالتِّـلقـاء، والتّـفـاعُـل هـذا لا يكـون إلاّ متـى نشـأت حـاجـةٌ فـي ثـقـافـةٍ مـا إلى مـواردَ جـديـدة مـن خـارجـها، أي مـن ثـقـافـةٍ / ثـقـافـات أخـرى، ووَقَـعَ سـعْـيٌ إلى ســدّ تلك الحـاجـة بالانـفـتـاح على تلك الثّـقـافـات.
إنْ لـم تـنـشـأ تلك الحـاجـةُ المـوجِـبـة ومعـها الإرادةُ الدّافـعـة إلى إشـباعـها، ستـكـون العـلاقـةُ بيـن الثّـقـافـات المتـجـاورة ساكـنـة، في أحـسـن الحـالات، أو مـنـغـلقـة إنـكاريّـة في أسـوأ الأوضـاع. ومـا أكـثـر ما تـجـاورتِ الثّـقـافـاتُ في التّـاريـخ - قـديـمًا وفي الزّمـن المعـاصـر - مـن دون أن يـقـع تـفاعُـلٌ، وبالتّـالي، تـبـادُل أثـرٍ بيـنـها فـبـدَت وكأنّ الواحدة منها محـايـدة تجـاه الأخـرى، لا يـشـدُّهـا إليـها أيُّ رابـط.
السّعي إلى الانفتاح والانتهال من الآخر لا يحصل إلا لدى أبناء ثقافة واثقين بثقافتهم وحضارتهم
مـن البيّـن، إذن، أنّ التّـثـاقُـف لـيس من حـتـميّـات التّـطـوّر المـوضوعـيّ وإنّـما مشـروط بـوجـود حـاجـاتٍ متـبـادَلـةٍ بيـن الثّـقـافـات تـبـرِّر لـهـا التّـفـاعـل والامـتـيـاح المتـبـادَل، ولـكـنّـه مشـروطٌ - أكـثـر مـن ذلك - بـوجـود رغـبـةٍ وحـافـزٍ ذاتـيّ مـن أجـل إجابـة تلك الحـاجـات مـن طريق الانـفـتـاح وانـتـهـال ثـقـافـةٍ مـن أخـرى مـا ليس فيـها ومـا هي تـعـتـازُه لـتـعـظيـم مـواردها وتـعـزيـز بـنـيانـهـا. نحـن فـي غـنًـى، طـبـعًـا، عـن تـأكـيـد المـؤكَّـد في هـذا البـاب: اقـتـضاءُ الانـفـتـاحِ والانـتـهالِ شـجـاعةً أدبـيّـةً وثـقـةً بالنّـفـس من دونـهـما لا يكـون. لا يـنـفـتـح أبـنـاءُ ثـقـافـةٍ على ثـقـافـةٍ أخـرى (هُـمْ فـي عَـوزٍ إليـها) إلّا مـتـى ملـكـوا الجـرأة على الاعـتـراف بحـاجتهـم إلى تلك الثّـقـافـة لتـغـذيـة رصـيـدهـم مـن المـوارد؛ وهـو الاعـتـراف الذي يتـحـرّرون فيـه مـن وهْـم الكـفايـةِ والإشـبـاعِ الـذّاتـيّ والغَـنَـاء عـن الغـيـر مـن حيـث هـو وهْـمٌ كـابـحٌ وحـامـلٌ على الانـكـفـاء والتّـحـجّـر.
إنّـه، بـهـذا المعـنـى، فـعـلٌ شجـاع لأنّـه مِـقـدامٌ ومـتـطـلّع إلى المـزيـد من الاغـتـنـاء بمـوارد المعرفـة والثّـقـافـة. وعـنـدي أنّ هـذا السّـعـي إلى الانـفـتـاح والانـتـهـال مـن الآخـر لا يحـصـل إلاّ لـدى أبناء ثـقـافة واثـقيـن بـثـقـافـتهـم وحضارتهم، حريـصيـن على تعظيم مكـتسباتها مثـلما هي حـالُ عـرب العـهـد الكلاسيكيّ ومسلميـه في عـلاقـاتهـم بثـقـافات عصـرهم.
(خاص "عروبة 22")