بصمات

التطاول على العرب.. وتسطيح المواجهة

كثيرًا ما نصادفُ خلال الحرب الراهنة في غزّة التطاوُلَ القصديَّ على العرب والعروبة والانتماء العربي؛ تارةً من ذوي الشعور العفوي التلقائي، وتارةً أخرى من التيارات الطائفية التديُّنية، وكذلك من ذوي النوايا القصديَّة المبيَّتة ضد كل ما هو عربي. وتتراوح هذه الشتائم من عرَضِيَّات الاعتراض على السلوك العام للأنظمة وصولًا إلى الاستهزاء الجوهري بالوجود العربي نفسه. بباسطة، المسألةُ ليست عفوية وهي تسطِّح المواجهة ولا تعمِّق الفهم لها!

التطاول على العرب.. وتسطيح المواجهة

ذاك شاعرٌ يمني يعاكس قصيدة محمود درويش "سجِّل أنا عربي"، وآخر لبناني يتبرّأ من العرب، وأمثاله هنا وهناك من السذَّج الظانِّين أنهم يقولون شعرًا. ويضاف إلى هذه السذاجة رأي الناس البسطاء المتأثرين ببعض آراء خطباء الجمعة المنتمين إلى حركات الإسلام السياسي؛ ذلك أنّ هذه الفئة مِن الناس تعتقد بمرجعيَّة رجل الدين وسلطته العِلْمية والأخلاقية والسياسية في كل الأمور، وهذا ما يجعل منابر الجمعة والمساجِد مراكز تجمّعات حزبية يقام فيها مهرجان سياسي أيديولوجي موجَّه بكل ما للكلمة من معنى. هذا مع العلم أنّ كثيرًا مِن هؤلاء تراهم خارجين على سلطة دور الإفتاء الرسمية التابعة للدولة، أو مستغلّين لمواقعهم الدينية لفرض خطاباتهم الحزبية. مِن هنا نستنتج أن الرأي المعادي للعرب والعروبة على تلك المنابِر هو نفسُه رأي معادٍ للدولة وسلطتها كذلك.

هذا الرأي لا يتفاعل مع القضايا الاجتماعية إلا من جهة الولاء العقدي الطائفي، فهو لا يفكِّر بالأمّة إلا على مقياسِه هو لفهم الأمّة، وكل واحد من دعاة "الأمّة" في هذا السياق، يرى في جماعته الممثل الشرعي والوحيد لها. والخطورة في هذا الخيار الهُوَوي في الانتماء هي أنه لا يهتم لأي مفهوم حديث للهوية، بل لا يعنيه أي اعتبار للوطن والمواطنة، إذ إنّ الانتماء الوحيد الذي يحدّد وجوده هو الانتماء للعقيدة بحسب فهمه الخاص لها.

هل يُعقَل أنّ حركات تدّعي النضال في سبيل كرامة الإنسان العربي تدعم الدكتاتوريات وتستسهل أن يقتل الحاكم شعبَه

وفي هذا الوضع المارِق على التاريخ الحضوري للعيش، يستطيع الآخر المعادي لمصالح العرب ودولهم أن يستثمِر في هذه الزُّمَر، إذ يهيّئ لهم فرص إظهار القوة وفائض القوة، بحيث تُصبِح القوى الاجتماعية المحلية الفاعلة والنُّخب المفكرة كلّها عاجزةً عن أن تقنع الجمهور المتفاعل مع الحدث، بأن ما يجري رغمَ نُبْل المواجهة، إلا أنه مدروسٌ ومخطّط له أن يحدث من ناحية الإدارة السياسية الموسّعة للدول الكبرى. يكفي أن نشاهد تهديد "جماعة الحوثي" للأمن البحري الأميركي والبريطاني والغربي والعالمي كلّه! هل يُعقَل أن أميركا لا تقدِر على الإيقاف السريع لتدخل هذه الجماعة؟! يا للمفارقة، كيف استطاعت أميركا بجلسةِ عشر دقائق في مجلس الأمن أن تتخذ قرارًا بضرب العراق وإسقاط نظامه الوطني وتغيير دور هذا البلد وشكل سلطته وحكومته وصولًا إلى كل ما جرى بعد ذلك!

ولا تختلف الفئات الدينية والطائفية الأخرى، كالاستثمار الفئوي والحزبي لبعض دور العبادة المسيحية في إطلاق المواقف السياسية التي يفرضونها على الرعية، والتي تعزز وجهة نظر خاصة نابعة من تصوّر خاص للوطن أي بما هو مفهوم ديني للانتماء، يستثمر في النفع الفئوي، الذي يثير اللَّبس من التفاعل العادي للمواطن بما هو مواطن مع ما يجري في بلاده ومحيطها. ومعلومٌ كذلك أن كثيرًا من مواقف المسيحيين تجاه قضايا وطنهم وأمّتهم، تخالف خطابات رجال الدين هؤلاء، وأن خطابات أخرى لرجال دين مسيحيين غير موظفة سياسيًّا تملأ كثيرًا من الكنائس والأوساط الاجتماعية.

ثم تأتيك فئة ثالثة من بعض أحزاب القوميين العرب وتجمّعاتهم ولجانهم وحملاتهم الداعمة لفلسطين؛ فنرى بعض هذه الأحزاب والحركات المتقادمة قد التزمت خطابًا خشبيًّا يرى المعركة مع الكيان الصهيوني كأنها تدور في زمن عبد الناصر، فتشتم وتتهم العرب بأنهم متخاذلون ومهزومون ومنبطحون وعملاء... هذه المجموعات البائسة أيديولوجيًّا استطاعت أن تتكيَّف مع حركات الإسلام السياسي في مشاريع مشتركة، تعيق الوعيَ القومي العربي المعاصر نفسه بسبب افتعالِها الكبائر الاجتماعية تحت اسم العروبة والانتماء إليها. فهل يُعقَل أنّ حركات تدّعي النضال في سبيل الوحدة والحرية وكرامة الإنسان العربي، تدعم الدكتاتوريات وتستسهل أن يقتل الحاكم شعبَه، وتجعل خطابَها السياسي متوافقًا مع الخطاب الديني السياسي، بدلَ أن تكون منسجمةً مع أطروحاتها وشعاراتها النضالية التحررية؟! هل يُعقَل لدعاة العروبة أن لا يغيِّروا فلسفة العمل القومي العربية التي كانت رائجة بأخرى أكثر تفسيرًا وفهمًا لواقع الحال؟!

عندما نعتني بقيمة الإنسان نحرّر الأوطان أما عندما ننسى التفكير في جوهرية الانتماء فإنّ كثيرًا من الدمار ستراه أعيننا

بعد هذا العرض الموجز لبعض وجوه التفاعل المؤثِّر مع الحدث، نقول إنه مِن العقلانية بمكان أن تراجِع القوى الفاعلة خطابَها وتدرس علميَّةَ إنتاج الخطاب في كل مرة تُطلِق فيها مواقف مواكبة للحدث، حِرْصًا على الهُويَّة الحيَّة، أي إمكان الهُويَّة العربية اليوم. هذا الإمكان الذي يتطلَّب وعيًا فلسفيًّا أخلاقيًّا بالذات العربية الراهنة ووضعيتها الكونية، وانوجادها العلمي وتأثيرها الفكري القِيْمي، ذلك أنّ الانطلاق مِن هذه الحيثيَّة هو الذي يأتي بالخطاب من بؤر الانفعال الساذج إلى لحظة الحوار المفتوح في فهم الأنا والآخر والصلة بين الفرد والجماعة، وبين الذات والعالم المحيط.

إنّ تحمل المسؤوليةِ القَوْلِيَّة هو أهم شعور يجب أن يُساوِقَ الفردَ في انتمائه إلى مجتمعه، وكذلك في تعبيره عن هذا الانتماء، لأنّ التفكيرَ بأن يظلَّ الإنسان حيًّا يعيش بكرامة وأمان هو الأساس في العمل الوطني، وفي تحرير الوطن وبناء الدول. وبصراحة نقول، يجب أن يعيش الإنسان في سبيل قضيته، وكلُّ عقيدة أو فكرةٍ أو حركةٍ تقول عكس ذلك فهي معادية لطبيعة الإنسان. إن الذات الإنسانية أهم من أي أرض وأي حجر وأي فكرة واعتقاد. عندما نعتني بقيمة الإنسان نحرّر الأوطان، أما عندما ننتمي لمشاريع شرقية وغربية وننسى التفكير في جوهرية الانتماء نفسه، فإنّ كثيرًا من الدمار ستراه أعيننا كان بالإمكان تفاديه، بل الانتصار عليه وعلى فاعلِه بقوة الإنسانِ في بناء الذات الحرَّة النبيلة، التي تعيشُ تحسينًا دائمًا لهذا العالم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن