وجهات نظر

الثقافة البتراء... كيف تستعيد الثقافة العربية رُوحها؟

لعلّ من المعيقات اللافتة في الوعي العربي المعاصر، تلك المعاني المفهومية حول الثقافة، التي تسكن في التوصيفات الثابتة والتجريدات النّظرية، ومثالها هو تلك التي ترى في الثقافة، أنّها ذلك "الكل المركَّبُ الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوًا في المجتمع"، ورغم وجاهة هذا المفهوم للثقافة ورسوخه بخاصّة في مباحث الدرس الأناسي، إلا أنّنا في سياق التَّحديات العربية المعاصرة، نحتاج إلى مفهوم ثوري وتجديدي للثقافة، مفهوم لا يجمدها في عناصر معينة يمتصها الفرد من محيطه الاجتماعي، وإنّما يربطها أكثر بالصَّيرورة والفعل التَّغييري والتّجديد.

الثقافة البتراء... كيف تستعيد الثقافة العربية رُوحها؟

من هنا، فنحن في الثقافة العربية المعاصرة، في امتساس الحاجة، إلى هذا المفهوم الذي يمكن اختصاره في: أن الثقافة هي نشاط نوعي للإنسان، وهنا، يكون المطلوب؛ هو دومًا البحث عمّا يجب أن يكون، وما الذي يجب أن نرغب فيه من قيم حيوية تعيد ربط الإرادة العربية بالزمان و الفعل و التاريخ؟. لأنّها في حالها اليوم يمكن تسميتها بــــ : الثقافة البتراء، لأنها تعتقد أنّها ذات أو هوية ثابتة، وجب إعادة تنزيلها في مسار الواقع، بينما الحقيقة، أنَّ شرط الفعل الثقافي النّوعي هو الاستلهام من مقولات: التَّجديد والإبداع والفعل والتغيير والانطلاق والتجاوز والمخاطرة، وهنا، نكون أمام تحد في إعادة بناء مفهوم الثقافة العربية، كي تنطلق وتبدأ، إنه المفهوم الذي يُعرض عن المعاني السَّاكنة أو التَّعريفات الوصفية؛ كي يعانق المعاني النوعية والتعريفات الوظيفية في سياق تحديات حضارية مخصوصة.

المثقف الحقيقي ليس هو ذلك الذي يكون مكبّر صوت للسياسي الفاسد

وإذ بانت قيمة وأهمية المفهوم النَّوعي للثقافة، فإنَّ ثمة ما يجدر صرف القول إليه، أي المثقف العربي، فإذا كان المفهوم النَّوعي هو صورة الثقافة، فإنَّ المثقف الفعَّال هو مادتها؛ فلا حياة للثقافة ولا قيام لها، إلا بوجود النموذج الثقافي الذي ينقلها من حال الثبات والسُّكون إلى حال التغيُّر والحركة، وشرط فاعلية المثقف، هو أن يكون ملتحمًا مع القيم الحافزة والرَّافعة، التي يستلهم منها الطَّاقة والقدرة على التأثير والتغيير؛ فالمثقف الحقيقي ليس هو ذلك الذي يكون مكبّر صوت للسياسي الفاسد، ولا ذلك الذي يسكن في المدرَّجات الجامعية أو الحروف والملفوظات، ولا حتى من يعيش سعيدًا وسط المفاهيم المجرَّدة، معتقدًا أنها انعكاس لنور الحقائق الخالدة والمعاني الجميلة. إنّه المثقف البهرج أو الباطل بلغة الفارابي، لأنه قد يكون حصّل جزءًا من العلوم النّظرية، لكنّه غير قادر على إيجادها في المدينة.

الثقافة إذا اتجهت إلى الماضي فقط أصبحت ثقافة أثرية

لنقل إذن، بأنَّ روح الثقافة التي تغيّر البناءات الفكرية وتُلين من سطوة المذاهب والأفكار؛ وتُحدث الحرارة الحوارية والتّجارة الفكرية التي تنبني على التنافس والاختلاف؛ هي تلك التي تكون دومًا مُسافرة وليس مُقيمة، ملتحمة مع التحديات الفعلية وليست منقطعة عنها، متشابكة مع أسئلة الحاضر وليست كارهة لها. مستلهمة مقولات التجديد والفعل والحركة وليس مقولات الذاكرة والهوية والماضي، فالثقافة فيما يحلل ذلك "مالك بن نبي" إذا اتجهت إلى الماضي وفقط، أصبحت ثقافة أثرية. وبهذا فإننا ما لم نتبنَّ المفهوم الذي يرى في الثقافة نشاطًا نوعيًا، وفي المثقف الإنسان الفاعل الحرّ والقادر؛ فإننا نبقى ضمن: الثقافة البتراء، والمثقف الأفلاطوني الذي يرى الحقيقة في المثال والمطلق، وليست في الحركة والصيرورة والتغيّر.

نتطلع إلى تشكيل فعل ثقافي نوعي

إنّه حقيق بنا، ونحن نتطلع إلى تشكيل فعل ثقافي نوعي، أن نفهم الثقافة في سياقها الحيوي، باعتبارها عنصرًا من عناصر إرادة الاقتدار، وإرادة التحدي، وليست نزوعًا ضعيفًا نحو نفي الحياة وكره الحاضر. إنّ الفعل الثقافي النوعي هو الذي يصنع اليومي ويكون كلّ يوم هو في شأن، فمبدؤه إذن، التقلب بغير انقطاع والتجدُّد على الدّوام. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن