ثقافة

تطبيقات لغوية يجري ترويض العالم على أنها ذكاء اصطناعي/ AIChatGPT - ChatBOT - Bard

لطالما شددنا نحن البشر نحو نوع من الرموز اللغوية/الكلمات الجذابة والمثيرة أيضًا، وأهمها تلك التي سعت إلى الارتقاء بالإنسان إلى الكمال، الكمال الإلهي الذي يجعل من الإنسان كائنًا فوق البشر، بل فوق إنساني/إله، يمتلك كامل القدرة على فرض سيطرته على العالم وموجوداته، ومن هذه الكلمات نجذ 'الذكاء والقدرة'، من ذلك أكد "طوماس هوبز" - Thomas Hobbes في كتابه "الليفتان" أن "الأسماء هي ما يعمّم الخصوصيات وما يشكّل الحقيقة عندما تنتظم في توكيدات بشرية"، ولذلك اعتبر أنّ إطلاق التسميات على الأشياء والموجودات هو تعبير عن السيادة عليها، وفرض شيء من السيطرة عليها وعلى أُسُسها النظرية والمنهجية. فالتسميات هي ما يصنع الواقع، أما الواقع الموضوعي الموجود هناك فذلك أمر آخر، وكل ما لدينا نحن البشر مجرد انطباعات تبنيها اللغة ورموزها التعبيرية.

تطبيقات لغوية يجري ترويض العالم على أنها ذكاء اصطناعي/ AI
ChatGPT - ChatBOT - Bard

بالطريقة ذاتها يجري حثيثًا في العالم الراهن تعميم استعمال مسمى "ذكاء اصطناعي" المختصرة في رمز AI، بحيث بدأنا نرى منذ مدة تواتر استعمال هذه التسمية في مقالات ودوريات وكذلك ندوات ومؤتمرات علمية تتناول مجالات الفلسفة والأخلاق واللغة والتعليم والإعلام والاقتصاد والبيئة..، كما أنه وفي غضون شهرين من إطلاق Chatgpt في يناير 2023 بلغ عدد مستخدميه 100 مليون، فهل فعلًا تطبيقات من قبيل ChatGPT منOpenAI  وChatBOT من Microsoft وBard منGoogle  ذكية بما يكفي حتى تنال كل هذا الاهتمام والشهرة؟.

الذكاء لم يتوفّر حتى الآن لدى هذه الروبوتات التي يجري تعسّفا تسميتها "ذكاءً اصطناعيًا"

يشير مفهوم الذكاء الإنساني إلى قدرة الفرد على حل المشكلات، والاستدلال، والتكيّف مع المواقف الجديدة، واتخاذ قرارات حكيمة، وتصحيح الأخطاء، حتى أنّ تاريخ العلم هو تاريخ تصحيح الأخطاء (غاستون باشلار)، والذكاء بهذا المعنى ليس هو مراكمة المعلومات والبيانات وتنظيمها في قوالب صرفية وتركيبية، بل هو نوع من الخبرة البشرية التي تفترض الحضور في العالم وإدراكه أولًا ثم التفاعل مع أحداثه ووقائعه ثانيًا بشكل دينامي ومتجدد لا يعرف الثبات، "على سبيل المثال، يقوم الطفل الصغير الذي يتعلّم لغة ما بتطوير نظام قواعد، نظام معقّد من المبادئ المنطقية والمعايير.. ويمكن فهم هذا النظام اللغوي كتعبير عن "نظام تشغيل" فطري تم تثبيته جينيًا ليمنح البشر القدرة على إنشاء جمل معقّدة وسلاسل طويلة من الأفكار بأقل عدد من المعلومات" (Chomsky).

غير أنّ ما يجري تسميته حاليًا بذكاء اصطناعي مختلف تمامًا، حيث إنّ إجابة ChatGPT بشكل صحيح لا تعني أنه فهم أو تَفَكَّر فيما وجّه له من مهمات، إنه شكل من التفكير القائم على الحسابات وتحليل البيانات اللغوية الضخمة، ولكن هذه "الروبوتات تعطينا انطباعًا بأنها ذكية (كنوع من  شخصنة الآلة) بالرغم من أنها تفتقد العقل والوعي والإحساس" (Laurence Deveillers)، وقد أكد ذلك ChatGPT عندما سألته هل أنت ذكي؟ فكان جوابه: الذكاء يعتمد على الفهم الشامل، التعلّم من الخبرة، التكامل بين مختلف النواحي، والقدرة على التفاعل مع البيئة بطريقة مستنيرة، وهي خصائص تميّز الكائنات الحية. في حين أنني قد تظهر بعض مظاهر "الذكاء" في تفاعلي مع النصوص، إلا أنّ ذلك لا يعكس وجود وعي أو فهم شامل كما هو الحال في الكائنات البشرية".

كما أنّ هذه الروبوتات لا تتوفر على الدينامية المطلوبة لمتابعة سرعة تغيّر الأحداث وتطوّرها، في سؤال آخر وجهته لـChatGPT: كيف هو العالم حاليًا؟ كان جوابه هو التالي: "في الوقت الحالي، لا يمكنني تقديم معلومات دقيقة حول الأحداث الراهنة لأنني لا أمتلك وصولًا إلى مصادر أخبار حيّة وتاريخ تحديث معرفتي كان في يناير 2022. لمعرفة حالة العالم الراهنة، يفضل الرجوع إلى مصادر الأخبار الموثوقة والمحدّثة، مثل وكالات الأنباء، والمواقع الإخبارية، والمنظمات الدولية"، في مقابل ذلك يمكن لأي مواطن عربي عادي جدًا مثلًا وبدون علامات ذكاء مرتفعة، إذا سألته السؤال نفسه أن يسرد أهم الأحداث التي مرّ منها العالم العربي هذا العالم، بدءًا من زلزال تركيا وسوريا، ثم فيضان درنة وزلزال المغرب، وصولًا إلى طوفان الأقصى، ولعل ذلك هو ما جعل رائد التوليدية "نعوم تشومسكي" يصرح أن "هذه البرامج تتوقف عند مرحلة ما قبل البشر أو غير البشر في تطوّر الإدراك، عيبها العميق هو غياب أهم قدرة لأي ذكاء: قول ليس فقط ما يحدث، أو ما الذي حدث في السابق، وما يمكن أن يحدث مستقبلًا - وهذا هو الوصف والتنبؤ - ولكن أيضًا ما لن يحدث، وما هو ممكن وما هو مستحيل، هذه هي المكونات الأساسية للتفسير، وهي علامة الذكاء الحقيقي"، الذكاء الذي لم يتوفّر حتى الآن لدى هذه الروبوتات التي يجري تعسّفا تسميتها "ذكاءً اصطناعيًا".

من الذي يقف وراءها من الجماعات والدول؟ ومن الذي يتحمّل مسؤولية ما تنتجه من حقائق وأحكام؟

وعليه إذا استمرت برامج التعلم الآلي هذه مثل ChatGPT في السيطرة على ميدان الذكاء الاصطناعي، بغض النظر عن بعض الفوائد التي بدأت بالفعل في تحصيلها، فإنّ علوم اللغة حاليًا وفلسفة المعرفة وفلسفة الأخلاق – التحدي الأكبر -، كلّها تؤكد لنا أنّ استخدامنا للغة والخبرة والإدراك ومختلف الاستنتاجات التي نتحصل عليها عبر الحضور في العالم بأجسادنا ولغاتنا الطبيعة التي يكون بمقدورنا تعلّمها تضع قيودًا كبيرة على ما يمكن أن تقوم به هذه التطبيقات، وتثير تحديات أعظم من ذلك، على سبيل المثال: من الذي يقف وراءها من الجماعات والدول؟ ومن الذي يتحمّل مسؤولية ما تنتجه من حقائق وأحكام؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن