في غياب المساءلة السياسية لنظام "حسني مبارك" اختطفت الثورة مبكرًا وأطل الماضي مجددًا. لكل ثورة أسبابها وسياقها. كانت النهايات محتّمة، لكنها طالت واستغرقت وقتًا طويلًا، عشر سنوات كاملة طُرح خلالها بإلحاح على المجال العام سؤالان رئيسيان: "مصر إلى أين؟".. و"من يخلف مبارك على مقعده.. نجله الأصغر الوريث المحتمل أم جنرال جديد من داخل مؤسسة الحكم؟".
لم تضرب عاصفة التغيير أركان النظام بغير انتظار، كان كل شيء يجري في بنية المجتمع والسياسة يومئ بمقدماتها.
بدا النظام في عام 2005 كأنه استنزف طاقته على البقاء، ومشاهد الانتخابات الرئاسية أوحت بأننا قرب النهاية، لكن عمر النظام امتد لنحو خمس سنوات أخرى بفضل اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية.
كانت تلك حقيقة، فالحريات الصحفية والإعلامية رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل.
عندما تبددت أية آمال في ذلك الإصلاح بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام 2010 انفسح المجال واسعًا لعاصفة يناير 2011.
هناك من توقع "ثورة جياع"، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو "انتفاضة خبز جديدة" - كما جرى في انتفاضة يناير 1977، أو "حريق قاهرة آخر" على النحو الذي جرى في يناير 1952، أو تغيير النظام بتدخل عسكري كما حدث في 23 يوليو.
لم يخطر ببال أحد إطاحته بانتفاضة شعبية مدنية حديثة تدعو إلى نظام ينسخ الماضي ويلتحق بعصره.
هبّت ثورة "يناير" من خارج السياق السياسي، الذي اخترقت أحزابه وهمّشت منابره.
لم يكن يعني تدجين السياسة أنّ النظام في منأى عن عاصفة التغيير.
اقتحمت مسرح الحوادث أجيال شابة جديدة بروح جديدة وخيال مختلف، أصابت وأخطأت، لكن روحها تعلقت بفكرة الثورة، التي حسمت خيارها قطاعات جماهيرية واسعة نالت المظالم الاجتماعية من أبسط حقوقها في الحياة.
عكست ثورة "يناير" الإرادة العامة التي لا سبيل لتحديها وطمحت إلى الانتقال لعصر أكثر عدلًا وحريةً وكرامةً إنسانية
لعبت الحركات الاحتجاجية، وفي مقدمتها الحركة المصرية للتغيير "كفاية" والجمعية الوطنية للتغيير، أدوارًا جوهرية في معارضة سيناريو التوريث للابن والتمديد للأب وصنع مسار سياسي للغضب المتصاعد يتبنى التحوّل إلى الديمقراطية وبناء دولة مواطنة وعدالة وقانون.
كانت النذر تتجمع في الأفق المحتقن.
لخّص "مشروع توريث الجمهورية" من "الأب" إلى "نجله الأصغر" أزمات النظام كلها، ووضعه مباشرةً أمام النهايات المحتمة.
كان ذلك المشروع تعبيرًا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين في صلب القرارين الاقتصادي والسياسي بزواج بين السلطة والثروة.
لم يكن ممكنًا بأي حساب توريث الحكم بغير أثمانٍ باهظة واضطرابات لا قِبَل لأحد بها.
كان طبيعيًا في بلد محوري مثل مصر أن تتدخل أجهزة استخبارات دولية لتوظيف الأحداث الكبرى وفق مصالحها الاستراتيجية، أو على الأقل خفض فاتورة المخاطر على تلك المصالح.
غير أنّ ذلك لا يعنى أنّ الفعل الثوري نفسه مؤامرة وأسبابه "نكسة".
كان ذلك التعبير افتراءً على التاريخ وعملًا انتقاميًا من الثورة وقواها الشابة.
قيمة "يناير" في التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التي لا سبيل لتحديها بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلًا وحريةً وكرامةً إنسانية.
قبل العاصفة تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين وكل ما له قيمة في البلد، استقطبت المشاعر العامة حتى بدا النظام كلّه في العراء السياسي.
رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التي دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجًا إلى إعلان تذمّرها، فقد كان "مشروع التوريث" هو نقطة التفجير التي استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.
في لحظات النهاية بدا النظام بلا ظهير سياسي، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف في ميدان "التحرير".
الثورات ليست مؤامرات حتى لو بدا أنّ هناك من تآمر لاختطافها، أو حرفها عن مسارها وأهدافها.
الثورات ليست مبرّأة من الأخطاء، فالأحداث الكبرى لا تجرى في معامل كيمياء تضبط التفاعلات وسلامتها.
لم تكن هناك قيادة للفعل الثوري، ولا خطة واضحة للانتقال من عصر إلى آخر.
هكذا أمكن اختطافها من "الإخوان المسلمين"، آخر من دخلوا الميدان وأول من خرجوا منه، ثم من أشباح الماضي الذي ثار عليه شعبه.
تبددت أسطورة التعويل شبه المطلق على الولايات المتحدة في ضمان استقرار النظام وبقائه في السلطة
إعادة قراءة ما جرى من تفاعلات وحسابات في سنوات مبارك الأخيرة تساعد باليقين على إدراك الأسباب الكامنة، التي أفضت إلى إجهاض أهداف "يناير" واختطاف جوائزها من غير مستحقيها.
أسوأ ما جرى عند إطاحة النظام غياب المساءلة السياسية.
اصطنعت حالة تلكؤ بين أطلال نظام "مبارك" بلا قطيعة مع الأساطير التي أسّسته، كان ذلك من أسباب اختطاف الثورة سريعًا وإجهاض أهدافها تمامًا.
أول الأساطير أنّ "قوة الأمن" وحدها تضمن استقرار النظام وأنّ فيها الكفاية لمنع أي خطر على وجوده دون حاجة إلى أية ركائز أخرى سياسية واجتماعية تثبته.
تأسّست دولة بوليسية وتعمّقت فجوات بين الأمن ومجتمعه، وكانت النتائج قاسية في تجربة "يناير".
وثاني الأساطير أنّ الاستغناء عن السياسة بمعناها المؤسّسي الحديث يخفض من الصداع العام في بنية النظام ويوفر قدرًا أكبر من الاستقرار.
لم يكن "الحزب الوطني الديمقراطي" حزبًا حقيقيًا بقدر ما كان تجمّعًا لأصحاب المصالح يلتصق بالسلطة، أي سلطة. كان مزيجًا من بيروقراطية الدولة ونفوذ الأمن.
في لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملًا للبنية السياسية المصطنعة.
وثالث الأساطير التعويل شبه المطلق على الولايات المتحدة في ضمان استقرار النظام وبقائه في السلطة.
لم يطل الوقت حتى تبددت تلك الأسطورة في ضمان مستقبل النظام وبدت وهمًا من الأوهام في الأيام الأولى لـ"يناير".
(خاص "عروبة 22")