بصمات

سورية.. الوحدة والانقسام (1/2)

في سنة 1864، أُنشئت "ولاية سورية"، وكانت المرّة الأولى التي تُعطى لولايةٍ اسم بلاد، إذ إن العُرف الدارج كان يسمّي الولاية باسم المدينة التي هي المركز. وكانت حدود هذه الولاية تمتدّ من جنوب ولاية حلب حتّى خليج العقبة وحدود شبه جزيرة سيناء. أي إنّها ضمّت كلًّا من سوريا (من دون حلب)، وفلسطين ولبنان (ما عدا مُتصرّفية جبل لبنان التي أُنشئت عام 1861 في أعقاب الصراع الطائفي بين الدروز والموارنة، وضمّت أقضية جزين والشوف والمتن وكسروان والبترون وجبيل والكورة وبشرّي وزغرتا). وكان إنشاء "ولاية سورية" ردًّا على إنشاء المتصرّفية الذي فرضها تحالف دولي مكوّن من النمسا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا.

سورية.. الوحدة والانقسام (1/2)

لم يكن إنشاء "ولاية سورية" مجرّد إجراءٍ إداري، بل كان يهدف إلى إقامة كيانٍ يستطيع مجابهة تدخّلات الدول الأجنبية ويََجَنُّب تكرار نموذج المتصرّفية. ويذكر المؤرخ بطرس أبو منّة أنّ "والي سورية" راشد باشا حضر إلى بيروت عام 1867، في زيارةٍ استمرت أسبوعَيْن، واجتمع بمسؤولين ومتنوّرين بينهم بطرس البستاني، بهدف تطوير "سورية" وسدّ الفجوة بينها وبين جبل لبنان، واتُّخذت قرارات من أهمها تشجيع الأدب العربي والنهضة العربية. ومعنى ذلك أنّ الإدارة العثمانية التي كان يشغلها مُصلحون مرموقون كانوا يسعون إلى تشجيع بروز هويّة سوريّة عربيّة (حديث بطرس أبو منّة إلى مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 101 - شتاء 2015).

الوطنية لا بدّ من أن تقوم على أُسُس مُتعدّدة أبرزها التنمية التي تشمل كلّ المناطق والمساواة بين أبناء البلد الواحد

وإذا أحطنا بظروف تلك المرحلة، نجد أنّ الفكرة الوطنية كانت آخذةً بالتبلور، وتظهر في صحف تلك الفترة وكتابات المتنوّرين أمثال بطرس البستاني ومجلّة "نفير سوريا" ومجلة "الجنان". وسرعان ما تطوّرت الفكرة العربية كرابطةٍ وطنيةٍ تجمع المسلمين والمسيحيين على اختلاف مذاهبهم. وكما نعلم، فإنّ الفكرة العربية قد تحوّلت إلى حركةٍ وثورةٍ عام 1916، وصولًا إلى إعلان الحكومة العربية في دمشق عام 1918، والتي استمرّت حتّى الاحتلال الفرنسي في 24 تموز عام 1920. ونعلم أيضًا أنّ الثورات ضدّ الفرنسيين قد بدأت في جبال العلويين مع الشيخ صالح العلي، وفي جبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925، الذي برز كقائدٍ للثورة التي عمّت سوريا، فاستخدم الفرنسيون الطائرات لقصف دمشق وحماة لإخمادها.

وعلى الرَّغم من انتشار الفكرة الوطنية واستقطابها شرائح واسعة من أبناء "سورية"، فالوطنية لا بدّ من أن تقوم على أُسُسٍ مُتعدّدة، أبرزها التنمية التي تشمل كلّ المناطق، والمساواة بين أبناء البلد الواحد. وعلى الرَّغم من النوايا التي برزت لدى المُصلحين العثمانيين الذين كانوا وراء إنشاء "ولاية سورية"، إلّا أنّ طموحات التنمية لم ترقَ إلى الأداء الإداري المتعثّر.

ويمكننا أن نتعرّف إلى أحوال "سورية" من خلال التقرير الذي رفعه الوالي مدحت باشا عام 1879 إلى الحكومة في "إستامبول" حول أحوال الولاية ومشكلاتها، وبدأه بالفقرة الطويلة التالية: ممّا لا يحتاج إلى البيان والتعريف لديكم أنّ ولاية سورية أوسع من غيرها من الولايات، وأنّ أهلها من العرب والأتراك والتركمان والدروز والنصيريّة والروم والموارنة والكاثوليك والبروتستانت والسريان والأرمن، ويتألّف من هؤلاء شعبٌ عدده أربعة وعشرون نوعًا من الملل والأديان والمذاهب، ينضمّ إليهم الجزائريون والشراكسة والتتار وغيرهم من المهاجرين. ومن جهةٍ أخرى فإنّ أطوار وأحوال العربان والعشائر معلومة لديكم، وأنّ إدارة هذه الأجناس المختلفة على قاعدةٍ واحدةٍ وما تُولّده من مشاكل، غنيّ عن التعريف والإيضاح.

ويأخذ في الاعتبار، بعد الحوادث السيئة التي حدثت في الولاية (يُشير إلى حوادث دمشق 1860)، تشكيل إدارة جبل لبنان في وسط الولاية بمظهر الامتياز، واستثنائه من تكاليف الضريبة والأعشار والجزية... في حين أن سوريا منذ زمن، هي عرضة لتدخل الدول الأجنبية وعلى الأخصّ فرنسا وإنكلترا (النصّ الكامل لتقرير مدحت باشا في: عبد العزيز عوض، الإدارة العثمانية في ولاية سوريا، دار المعارف في مصر، 1969، ص 352-360).

"سورية" كانت بحاجة إلى التنمية والمساواة الأمر الذي لم يكن يعوّضه سوى الوطنية العابرة للجماعات الدينية أو الإثنية

كان مدحت باشا إصلاحيًّا كبيرًا وقد عُرف باسم "أبو الدستور"، وقد خدم في ولاية دمشق قبل أن يتدرّج في المناصب ويصبح صدرًا أعظم، ليعود إليها واليًا. فهو عارف بأحوال "سورية"، وقد سعى لإحداث إصلاحات فيها. إلّا أنّه لا يُخفي المشاكل الكثيرة العميقة التي تعيشها الولاية. يُشير في تقريره إلى أوضاع بعض الجماعات والمناطق مثل جبل النصيرية الذي كان عامرًا على سعته حتى وقتٍ قريبٍ، فإنّ أكثر أهله قد تفرّقوا عنه نتيجة سوء الاستعمال (التصرّف) في أمور الأحوال الأميرية وإجراء القرعة (التجنيد)، وأضحى سكانه في حالةٍ مزرية. وعن جبل الدروز يقول حدثت أمور، فوضعت لتنظيم جبل الدروز في لواء حوران، أصول وقواعد وعُيّن له قائمقام ومجلس ومحكمة... وعن البدو الرحّل، يقول: تقرّر توطين عرب الدولة في جهات حمص مع الوعد بالمحافظة عليهم من أشقياء العربان... وبينما كانوا قادمين إلى الأماكن المُخصّصة لهم داهمتهم عربان السبعة والحديدين واللهيب وغيرهم من الاشقياء...

ويقترح إجراءاتٍ من بينها: بناءً على ذلك، إذا لم تكن هناك معاونة عسكرية فإنّه من غير الممكن إدارة هذه الولاية... ولكن ما نفهمه من تقرير مدحت باشا أنّ "سورية" التي أُهملت خلال الحقبة العثمانية حتى إعلان "ولاية سورية" عام 1864، كانت بحاجةٍ إلى التنمية والمساواة، الأمر الذي لم يكن يعوّضه سوى روح الوطنية العابرة للجماعات الدينية أو الإثنية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن