اقتصاد ومال

كلُّنا فاسدون... حين يتم "التطبيع مع الفساد"

أن يُطبّع المرء مع الفساد ليس معناه فقط أن يسلّم به أو يستسلم له. وليس معناه أن يقبل به، يرضاه، وينساق للعمل في ظلّه وتحت جناحه فحسب. هو بعض من هذا وبعض من ذاك. التطبيع مع الفساد هو أيضًا توافر القابلية لدى الأفراد والجماعات لجعله "أمرًا طبيعيًا"، لا يستقيم البنيان ولا العمران بدونه أو بانتفائه.

كلُّنا فاسدون... حين يتم

هو حالة نفسية بامتياز، قد تبدأ جدلًا بالمناهضة المحتشمة، ثم بالتنديد المضمر، ثم بالقبول التدريجي به، كأمر واقع يعلو ولا يُعلى عليه. القابلية هنا صيرورة، تستوجب الإعداد والتهييء، وتفترض آليات خشنة وناعمة تشتغل على القيم المشتركة لتفجيرها من الداخل، أي لتطويعها كي تتساوق مع "قيم الفساد" وتتماهى مع ممارساته.

الفساد منظومة قائمة لها مؤسّسون ومُنظّرون وفقهاء

التطبيع مع الفساد عملية مركّبة، لأنّها لا تكتفي بغرس قيم هجينة مكان القيم المقبولة اجتماعيًا وثقافيًا، المتواترة أخلاقيًا، بل تراهن على تقويض أُسُس مبدأ "الحق والواجب"، لتضع مكانه وعوضًا عنه، "مبادئ جديدة" تختلط على المرء في ظلّها مقاييس الحق والواجب وحدود العام والخاص.

إنّها تعمل على تمييع ذوات المقاييس والحدود، وعلى تبخيسهما والدفع بعدم جدواهما بين الناس، فيغلب الواجب على الحق وينتصر الخاص على العام. ينصاع المرء بمقتضى ذلك للواجب، لكنه لا يستطيع إعمال الحق للتصدي له، أو ردعه أو الحد من غلوّه.

ثم إنّ التطبيع مع الفساد هو عملية مستمرة في الزمن، متموّجة لكنها ثابتة. ولذلك، فإنّ الثاوين خلفه أو الدافعين به، إنّما يراهنون عليه ليصبح الفساد بمرور الزمن، ركنًا ماديًا لا تستقيم السياسات العمومية بدونه.

الفساد منظومة قائمة. لها مؤسّسون ومُنظّرون وفقهاء، ولها مجتهدون ومؤوّلون. ولها فضلًا عن كل ذلك، من يدفع بها كي تصبح شرعية ومشروعة. التطبيع هنا يتجاوز الفساد. إنّه تطبيع مع المنظومة برمتها، في خطابها وسلوكها وفي ممارساتها.

التطبيع مع الفساد لا يتساوق مع ثنائية الحق والواجب وحسب، إنّه لا يتساوق أيضًا مع مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وهو أمرٌ يمكن تفهّمه، لأنّ المنظومة لا تضع على رأس المسؤولية إلّا من هُم منها، أي من لا تجوز مساءلتهم أو التعرّض لذواتهم، حتى وإن أوغلوا في الفساد.

مَن يدفعون بـ"حتمية" التطبيع مع الفساد يدفعون بعدم الربط بين المسؤولية والمحاسبة ويصادرون المستوى القضائي

ربط المسؤولية بالمحاسبة ليست طرحًا قانونيًا صرفًا، يتم بمقتضاه إعمال مبدأ التداول على المسؤولية، بناءً على الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد. ولا هو من باب الاحتراز من مسؤول قد يتحوّل إلى مصدر تسلّط وشطط. ربط المسؤولية بالمحاسبة هو ربطٌ أخلاقيٌ أيضًا، إذ بمقتضاه تُصان الأمانة، يحفظ المال العام ولا يتم التجاوز على القانون.

الذين يدفعون بـ"حتمية" التطبيع مع الفساد، بسلوك متعمّد أو بانتفاء للمناعة والشفافية والنزاهة من بين ظهرانيهم، هم أنفسهم من يدفع بألّا يتم إعمال الربط بين المسؤولية والمحاسبة، وألّا يتم الاحتكام إلى ثنائية الحق والواجب. هم أنفسهم من يفسح في المجال واسعًا، كي تسود "القيم الجديدة" وتتسيّد، في أفق التطبيع النهائي معها والقبول بها.

ولذلك، فهم لا يتوانون في مصادرة المستوى القضائي نفسه، باعتباره المؤتمن على كل هذه المستويات. إنّهم يوظّفونه ويبخسون أحكامه ولا يمتثلون لقراراته. إنّه يصبح مستوى من مستويات التطبيع أيضًا، لا بل لربما هو الذي يسنده ويشرعن له بالنص المباشر أو بالتأويل المبالغ فيه. بالتالي، فإنّ المستوى إياه لا يستطيع مساءلة المرتشي، أو مصادرة ممتلكات من اغتنى من مصدر مشبوه، أو متابعة من ترامى على مال عام. يصبح الفساد هنا من نطاق تدبير الشأن العام، لأنه هو وازعه ومحرّكه والقائم مقامه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن