قضايا العرب

أزمة المياه في تونس: الجفاف وتقاعس الدولة

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

للمرة الأولى منذ عقود تكون السدود في تونس شبه فارغة والمحاصيل الزراعية كارثية بسبب تتالي سنوات الجفاف وحدّتها التي لم يسبق أن عاشت البلاد على وقعها. هذا الوضع أثار جديًا مسألة أزمة المياه التي بدأت تظهر منذ سنوات وقوبلت بتراخي السلط الرسمية، ولكنها اليوم لم تعد تحتمل هذا التعاطي في ظل الارتفاع الغير مسبوق في درجات الحرارة وندرة الأمطار والتي ألقت بظلالها الوخيمة على أكثر من صعيد ودفعت السلطات لاتخاذ إجراءات مستعجلة لتنظيم عملية توزيع المياه على التونسيين، في مواجهة أزمة شحّ المياه التي لم تعد تخص تونس وحدها بل باتت تهدّد أغلب الدول العربية.

أزمة المياه في تونس: الجفاف وتقاعس الدولة

منذ دخول شهر أبريل/نيسان الماضي، اعتمدت تونس نظام الحصص في توزيع المياه الصالحة للشرب ومنعت استعمالها لأغراض فلاحية ولريّ المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة وفي غسل السيارات لمواجهة أزمة الجفاف وتراجع إيرادات السدود. إجراءات كان من المقرر أن تنتهي في الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي، لكن وزارة الفلاحة التونسية أعلنت تمديدها إلى أجل غير مسمى في ظل استمرار الجفاف وتأخر نزول الأمطار على خلاف السائد في البلاد.

وتفاقمت أزمة المياه في تونس في السنوات الأخيرة وباتت الأرقام المعلنة من السلط الرسمية تدق ناقوس الخطر وترجح أنّ البلاد مقبلة على سنوات صعبة في حال استمرت سنوات الجفاف. إذ أصبح يعاني أكثر من 300 ألف مواطن تونسي من نقص المياه، معظمهم يعيشون في القرى والأرياف، رغم أن محافظاتهم توفر المياه الصالحة للشرب لغالبية المدن. وبات نصيب الفرد في تونس من المياه أقل من 450 مترًا مكعبًا، وهي نسبة أقل من عتبة ندرة المياه، والتي تصل إلى 1000 متر مكعب حسب تقديرات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

ويبلغ عدد السدود في تونس 36 سدًا بطاقة استيعاب إجمالية تصل إلى 31% فقط. وحسب أرقام وزارة الفلاحة التونسية فإنّ إيرادات السدود سجّلت نقصًا بـ1 مليار متر مكعب وانخفض معدّلها الوطني بنسبة 50%، ما بين سبتمبر/أيلول 2022 إلى منتصف مارس/آذار 2023. كما تراجعت طاقة سد "سيدي سالم" الواقع في محافظة باجة بالشمال التونسي وأحد أكبر السدود التي تزود العاصمة ومدن الوطن القبلي بمياه الشرب، من 580 مليون متر مكعب إلى 96.9 مليون متر مكعب.

أزمة هيكلية

ويوضح الخبير في التنمية والتصرّف في الموارد، حسين الرحيلي، أنّ منسوب السدود قد تراجع إلى أقل من 26% ، لافتًا إلى أنّ تلك الكمية "لا تصلح للاستغلال بأكملها نظرًا لترسّب الأوحال في السدود بحوالى 10% والهامش الصالح للاستغلال لا يتجاوز تقريبًا الـ16%".

وقال الرحيلي لـ"عروبة22": "نواجه في تونس أزمة هيكلية في قطاع المياه، وليست أزمة ظرفية، وأقصد هنا العوامل المناخية والخيارات السياسية التي عمّقت الأزمة. فجذور الأزمة الهيكلية تعود إلى سنة 1995، حين صُنّفت تونس بين الدول التي دخلت مرحلة الضغط المائي، ومنذ تلك الفترة لم تتغيّر السياسات العمومية ولم تطرح الدولة بديلًا للحد من الأزمة". وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2003، كان لدى تونس 27 سدًا و600 بحيرة وأكثر من 4000 بئر عميق و150 ألف بئر سطحي.

هناك تفاوت جهوي بين إنتاج المياه واستهلاكها، إذ تمتاز غالبية محافظات شمال غرب تونس، الذي يمثّل عدد سكانه 14% من إجمالي عدد سكان البلاد، بوفرة الأودية والبحيرات والسدود، وتضم 37 سدًا تزوّد كامل البلاد بالمياه الصالحة للشرب. ولكن غالبية سكان هذه المناطق تعاني نقصًا حادًا في المياه، وبيوتهم غير مزوّدة بشبكات المياه الصالحة للشرب، ويواجهون صعوبات كبيرة للحصول على المياه بل ويضطرون إلى التنقل لمسافات طويلة بحثًا عن الماء في البحيرات والعيون بالأودية. في المقابل تستأثر المناطق الساحلية التي يمثّل عدد سكانها 21% من مجموع عدد السكان، بالأنشطة الأكثر استهلاكًا للمياه، على غرار السياحة والصناعة والزراعات السقوية.

وتسبب هذا الجفاف في خسائر كبيرة للقطاع الفلاحي، وخاصة الزراعات الكبرى، الذي كان الأكثر تضررًا في ظل التراجع اللافت في الانتاج. إذ إنّ إنتاج تونس من الحبوب سجّل خلال الموسم الحالي 2023 تراجعًا بنسبة 60% مقارنةً بالنتائج المُسجلة خلال السنة الماضية، التي كانت بدورها سنة كارثية مقارنةً بالسنوات السابقة. وبلغت كميات الحبوب المجمّعة خلال الموسم الحالي حوالى 2.7 مليون قنطار مقابل 7.5 مليون قنطار خلال موسم العام الماضي. وهي كمية لا تحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب ما يدفع البلاد إلى مضاعفة وارداتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا وبأسعار مرتفعة من شأنها تعمّق أزمة البلاد الاقتصادية والمالية خاصة مع تراجع احتياطي البلد من العملة الصعبة.

العوامل والأسباب

ورغم أنّ تتالي سنوات الجفاف بسبب تأثير التغيّرات المناخية هي العامل الأبرز لأزمة المياه في تونس إلا أنّ هناك عوامل أخرى تضافرت فيما بينها وأوصلت البلاد للمرحلة الراهنة.

أولًا، تتحمل الدولة المسؤولية عن تفاقم أزمة المياه في ظل عدم وضعها برامج طويلة المدى وذات فاعلية مستقبلًا، لا سيما وأنّ كل التقارير قد أكدت منذ سنوات أنّ تونس بلد يعاني الفقر المائي، واكتفت بوضع برامج ظرفية تنتهي بمجرد نزول الأمطار.

ثانيًا، الاستغلال المفرط للمياه في قطاع الفلاحة وخاصة المنتوجات الموجهة للتصدير، إذ بلغ معدل استهلاك القطاع الفلاحي للماء 3600 مليون مترمكعب، وهو معدل في ازدياد. هذا إلى جانب الانتشار العشوائي للآبار الجوفية التي وصل عددها إلى 21290 بئرًا عميقة، 50% منها متواجدة في محافظة قبلي (جنوب) أساسًا من أجل سقي التمور الموجّهة للتصدير، والتي يقول خبراء المياه إنّ كل حبة دقلة (تمر تونسي) تحتاج 50 لترًا من الماء.

ثالثًا، سوء استغلال الأراضي الفلاحية وتمدد البناءات على حساب الأشجار والنباتات والتي تؤدي إلى نقص عملية التبخّر، وبالتالي نقص نسبة الأمطار والتي تؤدي بدورها لتراجع مخزون المياه الجوفية.

رابعًا، عدم اكتراث الدولة للأعطاب التقنية في شبكة التزوّد بالمياه وعدم وضعها برامج لصيانتها، رغم الخسائر الكبيرة في الموارد المائية جراء هذه الأعطاب. حيث وصلت نسبة المياه المهدورة في قنوات التوزيع التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لتناهز 32%، علمًا أنّ طول قنوات تزويد المياه الصالحة للشرب يبلغ أكثر من 47 ألف كيلومتر، قرابة 40% منها يتجاوز عمرها 29 سنة، و17% يتجاوز عمرها الـ49 سنة، بينما العمر المفترض للقنوات هو 20 سنة.

خامسًا، الاستغلال المفرط للمياه من قبل القطاعات المصنّعة والقطاعات ذات النشاط الاستخراجي، مثل شركة فسفاط قفصة (جنوب) والمجمّع الكيميائي بقابس (جنوب) ومصانع النسيج بالساحل، وقطاع السياحة أيضًا.

أرقام قياسية

ويعتبر منسق المرصد التونسي للمياه، علاء المرزوقي، أنّ "تتالي خمس سنوات من الجفاف قد أثّر على مخزون المياه في تونس الذي يعتمد على سدود محافظات الشمال الغربي التي تزوّد تونس الكبرى وجزءًا من الوطن القبلي فضلًا عن المدن الساحلية بالمياه الصالحة للشراب".

وقال المرزوقي لـ"عروبة 22": "لقد تأثّر مخزون المياه في السدود بسنوات الجفاف، وطبعًا انعكس ذلك سلبًا على المناطق التي تعتمد عليها والتي لا تملك حلولًا بديلة حتى الآن، هذا فضلًا عن المشاكل الأخرى كاهتراء الشبكات وضعف منظومة الصيانة وضعف إمكانيات المناطق الداخلية التي تتزوّد عبر الآبار".

وأضاف: "الأرقام المتصلة بالجفاف كانت قياسية، نظرًا لكون شهري أكتوبر/تشرن الأول ونوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2022 كانا دون تساقطات، وسجّل شهر يونيو/حزيران 2022 أعلى درجات حرارة منذ سنة 1952، ما جعل مخزون السدود سنة 2023 يصل إلى 27% فقط. ولكن ورغم خطورة هذه الأرقام وأهمية الماء لا توجد استراتيجيات رسمية واضحة وجدية في التعامل مع هذا القطاع الذي يتطلّب قرارات سياسية جريئة، تقطع مع الممارسات الحالية على غرار التصدي للفساد واللوبيات التي تستنزف قطاع المياه لأغراضها وأرباحها الشخصية، بالإضافة إلى ضرورة إرساء خيارات استراتيجية للحد من النزيف في القطاعات المستنزفة للمياه كالفسفاط والنسيج وغيرهم".

أزمة عربية شاملة

وأزمة المياه ليست مشكلة تونسية خاصة، بل هي تشمل أغلب الدول العربية التي تواجه بدورها خطر الجفاف وشح مواردها المائية. فبحسب احصائيات الأمم المتحدة فإن 390 مليون شخص من سكان العالم العربي، أي نحو 90% من إجمالي السكان، يعيشون في دول تعاني من ندرة المياه، وما يقارب الـ50 مليون شخص في المنطقة العربية يفتقرون إلى مياه الشرب الأساسية.

كما أن المنطقة العربية هي الأكثر ندرة في المياه بين جميع مناطق العالم، حيث تقع 19 من بين 22 دولة عربية في نطاق شح المياه. وتحصل 21 من 22 دولة عربية على مواردها المائية الأساسية من مياه عابرة للحدود.

وعلى سبيل الذكر لا الحصر، تُعد مصر، الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان، بين الدول التي تحصل على مواردها المائية من مياه عابرة للحدود، ورغم أنها تشكو من تبعات بناء سد النهضة على حصة مصر من المياه، إلا أنّ مسؤولين مصريين حذروا من أن البلاد تعاني من الفقر المائي حتى بدون الأخذ في الاعتبار تأثير سد النهضة. وأكدوا أن نصيب الفرد في البلاد من المياه سنويًا يبلغ حوالى 500 متر مكعب، ما يمثّل نصف حد الفقر المائي المتعارف عليه عالميًا. والعراق الذي يوصف بـ"أرض السواد" في إشارة لخصوبة أرضه بفضل مياه نهرَي دجلة والفرات، يتجه بدوره لأزمة مياه كبيرة ومن المرجح أن يتّبع سياسة "النفط مقابل المياه".

كذلك الشأن بالنسبة للمملكة المغربية التي أعلنت أنّ واردات البلاد المائية تراجعت بشكل كبير لتصل إلى 14 مليار متر مكعب، وذكرت أنّ نصيب الفرد الآن من المياه يُقدّر بنحو 650 مترًا مكعبًا، ما يمثّل تراجعًا كبيرًا عما كان الوضع عليه في عام 1960، عندما كان نصيب الفرد 2500 متر مكعب.

ولعلّ هذا ما يفسّر إنفاق مبلغ إجمالي قدره 39.3 مليار دولار في مجال تحلية المياه عربيًا، حسب التقرير الرابع لمشاريع تحلية المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لسنة 2023.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن