يكشف هذا، دون شك، عن صيرورة ارتقاء هائلة للعقل البشري الذي استطاع - بما طوّره من علوم تجريبية، خصوصًا فيزيائية، ومن تطبيقات تكنولوجية، خصوصًا فضائية - من تحقيق سيطرة أوسع على الطبيعة من حوله.
لكن المؤسف، أنّ ذلك الإنسان، الذي ازدادت قدرته على اكتشاف ممكنات الحياة على الكواكب الأخرى، ازداد عجزه عن العيش الآمن والكريم على كوكبه الأصلي. لذا نجد أنّ أشواقه لزراعة المريخ والسياحة على وجه القمر قد ترافقت وسلوكياته الخطرة التي تهدد بحرق الأرض وتدمير ممكنات زراعتها والسياحة فيها.
القدرة المتصاعدة على صنع الثروة وامتلاك التقنية ومراكمة الأسلحة لم يرافقها ارتقاء في الحكمة البشرية
نعم أعطانا نمط الحياة الحديث، وما بعد الحديث، الكثير من الأشياء، من قبيل مرافق حياة أساسية أكثر تطورًا، وتنظيمات اجتماعية أكثر رسوخًا، ومؤسسات للعدالة والعقاب أكثر فاعلية، وأشكال للترفيه أكثر جاذبية، ما يعكس تزايدًا في منسوب القوة لدى الإنسان. لكن، وفي المقابل، صارت مثالب كالجشع الفردي، والتناقض الطبقي، والتحيّز الدولي، بمثابة معاول هدم وأدوات هدر وقيود حديدية تعيق حركة البشر نحو فضائل كالعدالة والحرية والسلام، ما يعكس تراجعًا في مستوى الحكمة الإنسانية.
لقد أنتج التاريخ، عبر حقبه المختلفة، حكّامًا أشداء (فراعنة وقياصرة وملوك وخلفاء)، كان من بينهم مصلحون وبناة، أسّسوا الإمبراطوريات وعمَّروا المدن. وكان من بينهم كذلك من خرَّب هذه وأحرق تلك، وعمّم الخراب على الجميع، لكن، وفي الحالين معًا، ساد قانون القوة في أغلب الأحوال والأوقات، حيث سعى شيوخ القبائل الصغيرة، مثلُهم في ذلك مثل أباطرة الإقطاع العسكري وحكّام الإمبراطوريات العابرة للأقاليم، إلى التحكم فيما جاورهم من مجتمعات، بل والتوسع في أراضيهم، طالما كانت موارد القوة كافية لبسط السيطرة. فالحرب كانت سلوكًا يوميًا، وعادةً اجتماعية، بل حركة طبيعية تشبه حركتَيّ الشهيق والزفير، لا تنظيمات دولية تمنعها ولا قوانين متمدينة تُهذّبها.
غير أنّ التخلّف التكنولوجي الساحق في جل العصور السابقة للعصر الحديث، أبقى للموت حدودًا محتملة رغم قسوته، وللخراب حدودًا متصوّرة رغم اتساعه، حيث كانت عضلات المجتمع البشري لا تزال رخوة، تتوازى وحكمة التاريخ التي لم تزل نامية.
معضلة عالمنا المعاصر، إذن، هي ذلك الخلل المتزايد في معادلة "القوة – الحكمة"، فالقدرة المتصاعدة على صنع الثروة وامتلاك التقنية ومراكمة الأسلحة، لم يرافقها ارتقاء في الحكمة البشرية إلى مستوى يكفل الوئام ويحقق الانسجام بين الناس.
وعلى هذا، فإنّ عالمنا، الذي يزداد معرفة، بات يزداد شرًا، حيث تجاوزت قدرة الإنسان الفرد على الإيذاء حدّها البدائي المعروف بما لا يُقاس، كما تجاوزت قدرة الجماعات البشرية على القتل الحد التقليدي المألوف إلى مستوى نووي غير مسبوق وغير متخيّل. وفي المقابل يصعب الادعاء بأنّ حكمة العالم قد زادت بالدرجة نفسها رغم كل الخطابات التي دارت وتدور في فلك النزعة الإنسانية، المضمنة في فلسفة التنوير.
ما ينطبق على الإنسان في أوكرانيا لا ينطبق أبدًا على الإنسان في سوريا وفلسطين
خلاصة ذلك، أنّ القدرة المتزايدة على الإيذاء صارت حقيقة مؤكدة، فيما ظلّت الرغبة العميقة في السلام مجرد احتمال، ومن ثم استمرت المذابح تفتك بالتعساء والضعفاء من البشر، يتورط فيها الجشعون من تجار الدماء وأمراء الحرب، إذ يخططون لها ويحيكون خيوطها، ولا يتورعون عن مد طرفيها بما ينتجونه من سلاح ويبثونه من شكوك هي بمثابة الوقود اللازم لاستمرارها.
ولعل المتأمل في ملابسات المقتلة السورية، وفي حجم الألم المتولد عنها طيلة العقد الماضي. وكذلك الناظر إلى محرقة غزّة الدائرة رحاها الآن، يجد كل عناصر المأساة الإنسانية، ويدرك كيف بدت الادعاءات الليبرالية والمنظومات الحقيقية في الحالين مجرد خطابات إيديولوجية، يلوكها الأقوياء في القاعات المكيّفة، أو عقودًا ثمينة من اللؤلؤ، تزيّن فقط أعناق سيّدات القصور الفاخرة والمنتجعات السياحية، وليس أعناق سيّدات الحقول والبيوت الطينية، وكيف أنّ ما ينطبق تمامًا على الإنسان في أوكرانيا لا ينطبق أبدًا على الإنسان في سوريا وفلسطين؟.
(خاص "عروبة 22")