في استعراض واضح للقوة، شنّت إيران هجمات صاروخية على هذه الدول الثلاث، بينما تواصل جماعات مسلّحة تدعمها طهران استهداف مصالح أمريكية وغربية، وتخوض قتالًا مع إسرائيل مما يؤجج مخاوف من أن يعصف الصراع بمنطقة الشرق الأوسط ويمتد إلى مناطق أخرى.
ولأننا في موسم "التناطح الإقليمي"، وفق تعبير دبلوماسي عربي لـ"عروبة 22"، فقد سعى الجانبان التركي والإيراني إلى مناظرة الحروب الإقليمية الصغيرة، التي تشنها إسرائيل في آن واحد على عدة جبهات بشكل متزامن في فلسطين وسوريا ولبنان، عبر ضربات جوية وصاروخية، كان هدفها المعلن "مكافحة الإرهاب".
الرسائل الأمريكية لطهران عبر باكستان
وعَكَس رد الفعل الأمريكي، ما يمكن اعتباره، موافقة ضمنية على قصف باكستان لمواقع في الأراضي الإيرانية، حيث قال ماثيو ميلر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إنّ واشنطن تعمل على منع الشرق الأوسط من الانزلاق إلى صراع واسع النطاق. وتابع: "لقد رأينا إيران تنتهك الحدود السيادية لثلاثة من جيرانها في اليومين الماضيين فقط". وعندما سُئل عن احتمال قيام باكستان - الحليف القديم للولايات المتحدة - بالانتقام من إيران، أجاب ميلر: "نأمل أن تكون هذه قضية يمكن حلها سلميًا".
قد تبدو هذه التصريحات غير وثيقة الصلة بالحرب الإسرائيلية على غزّة، لكنها تشكل، بحسب مسؤول مصري، تحدث لـ"عروبة 22"، جانبًا من رسالة أمريكية واضحة لإيران، بقدرة واشنطن على الاستعانة بحلفائها في المنطقة وقت الحاجة، لإرباك إيران وإجبارها على عدم التورط أكثر فيما يجري بالقطاع الفلسطيني المحتل.
وقال مسؤول أمني باكستاني لشبكة CNN الأمريكية، إنّ بلاده استهدفت سبعة مواقع داخل إيران، بينما قالت وسائل إعلام إيرانية إنّ مقرّين تابعين لجماعة "جيش العدل" التي تصنّفها طهران كمنظمة "إرهابية" وتتهمها بالعمل من قواعد في باكستان، تعرّضا لقصف بـ"الصواريخ والطائرات المسيّرة وتمّ تدميرهما".
واتهم جهاز الاستخبارات الباكستاني إيران بأنها متورطة في حادثة اغتيال قائد الجماعة السنية المسلحة "جيش الصحابة" الباكستانية، مسعود الرحمن عثماني، علي يد سائقي دراجة نارية في 5 يناير/كانون الثاني في إسلام آباد.
وجاءت هذه الضربة بعد يوم واحد من إعلان الحرس الثوري الإيراني استهداف ما وصفه بـ"مقرات تجسس وتجمع الجماعات الإرهابية المناهضة لإيران في المنطقة"، مؤكدًا تدمير "مقر لجهاز الموساد الصهيوني" في إقليم كردستان العراق وتجمعات لتنظيم "داعش" في سوريا. بينما سارع، مسرور بارزاني رئيس وزراء إقليم كردستان العراق، إلى اتهام إيران بقتل مدنيين أبرياء في ضربات شنتها على عاصمة الإقليم شبه المستقل، وقال مندهشًا: لسنا جزءًا من هذا الصراع، لماذا تنتقم إيران من المدنيين في كردستان وخاصة في أربيل؟.
وخلص وفد ترأسه مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي بعد زيارة أربيل للاطلاع على الخسائر التي ألحقتها الضربات الإيرانية؛ إلى تأكيد عدم صحة استهداف مقر لـ"الموساد" في أربيل، لافتًا إلى أنّ الأهداف التي ضربتها إيران هي أهداف مدنية وليست عسكرية أو استخباراتية.
دمشق تطلب من الجامعة العربية غض الطرف عن قصف إيران لسوريا
وفي حين أدانت الجلسة غير العادية لمجلس وزراء الخارجية العرب، التي عقدت بطلب من العراق الاعتداء الإيراني، وشددت على ضرورة احترام سيادة العراق، فإنها تجنّبت إدانة القصف الإيراني على محافظة إدلب شمال غربي سوريا، إذ تجاهل أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية، الإشارة إلى القصف الإيراني لسوريا، واكتفى بإدانة استهداف مدينة أربيل العراقية.
وفي تفسير غير رسمي لهذا التناقض، قال مصدر في الجامعة العربية لـ"عروبة 22"، إنّ "دمشق مرّرت للدول العربية، معلومات عن أنّ القصف الإيراني تم بعلمها، وأنه يندرج في إطار الحرب على أعداء الدولة السورية".
بمعنى آخر، ووفق المصدر نفسه، فإنّ "القصف الإيراني كان لصالح النظام السوري، بينما القصف التركي كان على النقيض ضد المصالح العراقية".
أما وزارة الدفاع التركية فمن ناحيتها ادعت تدمير 23 هدفًا لمواقع تنظيم "بي كي كي/واي بي جي"، الذي ينشط في عدة دول بالمنطقة بينها سوريا والعراق وإيران، في الهجمات التي طالت مناطق غارا وهاركوك وقنديل شمالي العراق وشمالي سوريا، ردًا على مقتل 9 جنود أتراك وإصابة آخر بجروح في اشتباكات مع التنظيم شمال العراق.
ورغم اتفاق تركيا وإيران في السابق على مبدأ أهمية حماية وحدة الأراضي والسياسة في سوريا والعراق، استهدف الحرس الثوري الإيراني في 16 يناير/كانون الثاني الجاري إقليم كردستان العراق بصواريخ باليستية في هجوم اعتبر الأكثر إثارة للجدل بعد هجوم مارس/آذار عام 2022.
وإذا كان المتغيّر الإقليمي هو أحد أبرز محددات العلاقة بين إيران وتركيا، فإنّ لدى الحكومة العراقية مخاوف حقيقية من تحويل العراق مجددًا إلى ساحة لتصفية حسابات المواجهة الإقليمية بين إيران والولايات المتحدة في ظلّ المتغيّر الإسرائيلي.
في كل الأحوال، سعت أنقرة وطهران لاستغلال الوضع الراهن في غزّة عبر مغامرة عسكرية "محسوبة" بهدف توظيف الوضع الخارجي لأهداف خاصة.
رسائل إيران الصاروخية للولايات المتحدة وإسرائيل
ينطوي القصف الإيراني في سوريا والعراق على رسالة موجهة لكل من إسرائيل وأمريكا، إذ إنّ اختيار إدلب السورية يثبت توسّع مدى صواريخ إيران الباليستية وقدرتها على الوصول إلى مواقع مختلفة في إسرائيل مثل تل أبيب وحيفا، وعلى ضرب القواعد والمنشآت العسكرية الأمريكية الواقعة بالقرب من مطار أربيل الدولي أيضًا. وكان لافتًا اعتبار خطيب جمعة طهران أنّ الهجمات الإيرانية بمثابة تحذير لجميع أعداء "الجمهورية الإسلامية"، وتحذير لإسرائيل "حتى تدرك أنّ صواريخنا قادرة على استهدافها وبالتالي لا تسمح لنفسها بمواصلة أنشطتها الإرهابية".
ومع ترجيح أن تكون هذه الضربات ناجمة عن ديناميكيات داخلية، يعتقد محللون أنها ستسمح لطهران بالإشارة إلى قيامها بعمل عسكري بشكل مباشر دون المخاطرة بمواجهة أوسع مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، بينما تخفف الضربة الباكستانية الضغوط السياسية الداخلية، ولكنها قد تأتي بنتائج عكسية.
إيران وباكستان "يطويان الصفحة" سريعًا
وكدليل علي رغبة مشتركة في عدم التصعيد، أشار أمير عبداللهيان وزير الخارجية الإيراني، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الباكستاني جليل عباس إلى المفاوضات الجارية بين المسؤولين العسكريين والأمنيين في البلدين. واعتبر عباس أنّ أمن إيران هو أمن باكستان أيضًا، مؤكدًا اتخاذ حكومة بلاده الإجراءات اللازمة ضد أي تهديد لإيران مصدره الأراضي الباكستانية، وانتهى اجتماع لجنة الأمن القومي الباكستاني إلى موافقة حكومة إسلام أباد على استئناف العلاقات الدبلوماسية كاملة مع ايران وعودة كل من سفيري البلدين إلى مقر عملهما. وجاءت هذه النهاية السعيدة للموقف خلافا لتوقعات بأن يدفع هذا الهجوم الروابط بين باكستان وإيران، نحو أزمة خطرة".
وكانت العلاقات بين باكستان وإيران قد شهدت توترًا في الماضي، لكن الضربات التي ينظر إليها على أنها أكبر عملية توغل عبر الحدود في السنوات القليلة الماضية، مثلت، بحسب مراقبين، تجاوزًا غير مسبوق من باكستان للخط الذي حرصت حتى الولايات المتحدة وإسرائيل على عدم تجاوزه.
وأدت المصالح المتداخلة والقيود المحلية والدولية إلى وجود توازنٍ وحَذَرٍ بالغ في علاقات باكستان، وجعلت موقفها تجاه الصراعات الدائرة بين الدول العربية ضرورة حتمية، وليست خيارًا.
الوجود الأميركي في سوريا والعراق
وفي مختلف ملفات الصراع بين أنقرة وطهران، نجح البلدان في إدارة خلافاتهما بشكل مقبول وفي العمل على تعزيز مصالحهما المشتركة، وفي ملء الفراغ، لكنّ التنافس التركي الإيراني الذي يتحوّل إلى العنف يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها بشدة بعيدًا عن ساحات المواجهة بينهما فيما يتعلق بعلاقات دول المنطقة مع إسرائيل وعلى النفوذ في الموصل العراقية، التي يعتبرها كثير من الأتراك إرثًا عثمانيًا مفقودًا.
وفيما تشهد منطقة الحدود السورية- العراقية صراعًا دوليًّا/إقليميًّا بين الولايات المتحدة وإيران، عبر تحركات حلفاء الطرفين بهدف إحكام السيطرة عليها، فقد انخرطت الدولتان في تنافس استقطابي في المشروع الإقليمي لكل منهما. ولدى الولايات المتحدة 900 جندي في سوريا و2500 في العراق في مهمة تقول إنها تقدم المشورة والمساعدة للقوات المحلية التي تحاول منع عودة تنظيم "داعش" الذي استولى عام 2014 على أجزاء كبيرة من البلدين قبل أن يتم هزيمته.
وتشير تقديرات مسؤولين ومحللين غربيين وإقليميين إلى أنّ إيران ترغب في تجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، لكنها تعتزم استخدام وكلائها لإبقاء جيشي عدويها في المنطقة في حالة انشغال دائم، إذ بات واضحًا أنّ مصلحة إيران وتركيا تقضي بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في كل من العراق وسوريا.
(خاص "عروبة 22")