بالنسبة إلى المجتمعات العربية، فإنها معنية بشكل كبير بامتلاك مقومات الوعي المستقبلي، لأنّ المنطقة العربية هدف رئيس للتنافس الجيو ــ سياسي والجيو ــ اقتصادي بين الدول القوية والشركات المتعددة الجنسية والحركات العابرة للقومية.
الوعي المستقبلي العربي الجديد يفترض توفر 4 شروط على الأقل: سياسي ومعرفي وتواصلي وأخلاقي
أما الوعي المستقبلي، فإنه مرتبة من مراتب الوعي الإنساني، وقوة إدراكية للزمن، وهِمَّة نحو المستقبل واستعداد له عبر التخطيط وامتلاك مهارات الاستبصار والاعتبار. فالوعي المستقبلي ليس مجرد تشوّف لمستقبل أفضل، وإنما وعي بحركة التاريخ وصيرورة الزمن، وإدراك للتفاعلات العالمية واعتبار من أحداث الماضي، وإنصات لنبض العالم، والولوج بقوة للزمن العالمي والتأثير في إيقاعه. لذا فإنّ امتلاك وعي مستقبلي عربي جديد، يفترض توفر شروط عدة أحصينا منها أربعة على الأقل، وهي الشرط السياسي والمعرفي والتواصلي والأخلاقي.
الشرط السياسي يفرض على المجتمع العربي أن يحسم في الوجهة المستقبلية التي يريدها، فالإدارة السياسية مطلوبة بشدّة لحمل المجتمع على الانخراط في رؤية مستقبلية متفق عليها. وتتأسّس هذه الرؤية المستقبلية على تمثّل واضح وسليم وواقعي لصورة المستقبل المرغوب فيها؛ وهذا يقتضي إشراك الجميع في تشكيلها.
العالم العربي لا زال غير مهتمّ بإدراج حقل الدراسات المستقبلية في المنظومة التعليمية والبحثية
وإنّ التضارب بين مختلف مكونات المجتمعات العربية، وخصوصًا بين السلطة السياسية وباقي الفاعلين السياسيين والاقتصاديين، حول طرق ومنطلقات تدبير الشأن العام، وتغليب مبدأ الولاءات بدل الكفاءات، ومنطق المصالح الذاتية عوض المصلحة العامة، يجعل أمر الالتفاف حول رؤية مستقبلية نافعة مستبعدًا بشكل كبير، لأنّ الوعي المستقبلي الجمعي المستوعب للجميع، يتمّ التضحية به لحساب وعي ذاتي ضيّق أو لصالح وعي نخبوي يريد الهيمنة على الحاضر والمستقبل ويتوخى فقط "استعمار" مستقبل الآخرين؛ وذلك فيه مفاسد كثيرة، لأنّ كلّ "مستقبل"، أو "مستقبلات" ليست فيها مصالح الشعوب العربية حاضرة، فإنّ مآل ذلك هو فقدان المكانة في المستقبل العالمي.
أما الشرط المعرفي لتشكيل وعي مستقبلي عربي جديد، فإنه يكمن، في تقديرنا، في امتلاك الثقافة المستقبلية، والملاحظ أنّ العالم العربي لا زال غير مهتمّ بشكل جدّي بإدراج حقل الدراسات المستقبلية في المنظومة التعليمية والبحثية، كأنما الدراسات المستقبلية هي ترف فكري، بينما القارئ لتاريخ وواقع تخلّف المجتمعات العربية، يعرف بأنّ عدم امتلاكنا لمقوّمات رصد التحولات وتحليلها واستشرافها واعتماد الاستشراف الاستراتيجي، جعلنا عرضة للاستعمار القديم والجديد. نحن في حاجة إلى يقظة استراتيجية تساعدنا على الاستبصار لاتقاء آفات التغالب وانتزاع فرص الارتقاء. لذا فإنّ المعرفة المستقبلية شرط أساس لإعداد جيل من القادة ومن المواطنين، للإبحار في الأزمنة ما بعد العادية.
لبناء معالم جيوسياسية التعاون الإنساني بدل جيوسياسة الخوف والرعب
أما الشرط التواصلي، فيكمن في ضرورة توظيف جميع وسائط التواصل على إخراجنا من العيش والتقوقع في "الماضي" والتغنّي بأمجاد قديمة والتلذّذ بتذكّرها دون العمل على استثمارها في تحقيق وثبة حقيقية نحو المستقبل. إنّ "الماضي" الإيجابي هو الذي يحرّك فينا الرغبة نحو تحقيق أمجاد جديدة واستثماره في تقويم الحاضر والانطلاق من ذلك نحو مستقبلات جديدة. ثم إنّ الأجيال الحالية أصبحت سجينة "الغلاف المعلوماتي" وستبتلعها عمّا قريب العوالم الافتراضية، منفصلةً بدلك عن واقع عالمي متّسم بصراع حول الحاضر والمستقبل، وهنا بالتحديد تبرز أهمية الشرط التواصلي لأنه سيساهم في تشكيل وعي مستقبلي عربي قائم على تمثّل سليم للذات والآخر والعالم، وعلى بناء معالم جيوسياسية التعاون الإنساني بدل جيوسياسة الخوف والرعب.
أما الشرط الأخلاقي فهو ضروري لتوهّج أخلاقي جديد يمكّن من تجاوز التنافر والتناحر والتنابذ والتراشق بالاتهامات والتعصّب والتطرّف والتفسيق والتبديع والتكفير والتقتيل. ويمكّننا من المساهمة في صياغة ميثاق أخلاقي حول مستقبل البشرية.
فالوعي المستقبلي يتطلّب روح التضامن والأمل لمواجهة كافة التحديات والشجاعة على تقويم الذات ونبذ ثقافة العدمية والاستهلاكية الفجّة، وأنّ الوعي المستقبلي العربي الجديد، قادر على إمدادنا بالإيمان بأننا قادرون على الإسهام في بناء صرح الحضارة وترشيدها.
(خاص "عروبة 22")