من المعلوم أنّ تدبر القصص الديني، لا يقتصر فقط على تنزيل الجانب الشرعي البحت من العقيدة، بل يتجاوز ذلك إلى استلهام روح الرواية الدينية بكل تمثلاتها الإنسانية المختلفة، ولعلّ قصّة عبور موسى بقومه، من ضفاف التقتيل والاضطهاد الديني، خير مثال على ذلك.
إنّ الحمولة الرمزية لقصّة الخروج في شقها الروحي، تحيلنا على رغبة أصيلة في النفس البشرية، وهي الرغبة في الانعتاق من السلطوية الأخلاقية، والتحرّر من الرقابة الفكرية. لقد كان مهرجان البحر الأحمر في السنوات الأخيرة، بمثابة شعاع أمل أضاء سماء المملكة العربية السعودية، وخطوة شجاعة نحو العبور إلى ضفاف التسامح مع الاختلاف، والانفتاح على الأفق الانساني المشترك، بعد عقود من المقاربة التقليدانية للسينما والفنون.
المهرجان.. ولادة قيصرية على وقع أصوات من الماضي
معلوم أنّ للمملكة العربية السعودية وضعًا تاريخيًا وإقليميًا خاصًا، إضافة إلى الرمزية الدينية الكبيرة التي تُجسّدها أرض الحرمين الشريفين في وجدان العرب والمسلمين. يجوز لنا القول إنّ هذه المسؤوليات الأخلاقية والاستراتيجية للمملكة، قد عملت على تأجيل حُلم إقامة مهرجان دولي ينافس، في قوة استقطابه، مهرجانات عالمية مصنّفة.
لقد شكّل النجاح اللافت للنسخ السابقة من المهرجان، معضلة أخلاقية لدى التكتلات الأصولية من داخل المملكة وخارجها، والمعارضة لهذا النوع من التظاهرات الفنية، حيث تعالت العديد من الأصوات المنتقدة للمهرجان، باعتباره تجاوزًا صريحًا للتقاليد والعادات والأعراف المحلية. بينما طرحت أصوات أخرى، تأويلات مجانبة للصواب، اعتبرت من خلالها أنّ إقامة مهرجان سينمائي، بالتزامن مع الأوضاع السياسية والأمنية المتفجرة في المنطقة، هو خيار سيادي غير موفّق للمملكة.
سينما الشباب.. سلاح فعّال في مواجهة الردّة الحضارية
لا زال صدى الهتافات الشعبية المطالبة بالتغيير يتردّد في الميادين والساحات العربية، التي شهدت قبل عقد من الزمن بوادر حركة شبابية تحرّرية، إلّا أنّ هشاشة البنية الثقافية والفكرية العربية آنذاك، حالت دون تحقيق حلم التغيير، بل فتحت المجال أمام التكتلات الرجعية من أجل السطو على مكتسبات الثورات وتحريف مساراتها.
وأمام هذا الوضع، كان لا بد من التركيز على إنشاء جبهة فكرية صلبة، والعمل على تكوين وعي جماعي متنوّر من أجل الوقوف بحزم، في وجه التيارات الأصولية المتشدّدة التي تحتج على فعل الاختلاف بكل تمثلاته، وأبرزها هو الفن. لذا نجد أنّ مهرجان البحر الأحمر قد أولى عناية خاصّة لسينما الشباب لما تشكّله من أهمية حيوية في ترسيخ قيم التسامح والتعايش.
حاضنة ثقافية.. لصناعة الوعي العربي المعاصر
لقد كانت هموم الإنسان العربي النجم الحقيقي للمهرجان منذ انطلاقته الأولى، حيث تمّت دعوة صنّاع السينما من الشباب على وجه التحديد، إلى سرد حكاياتهم عبر الصورة، من خلال رفع شعار "قصتك بمهرجانك".
إنّ المتابع لفعاليات الدورة الأخيرة للمهرجان، سيلاحظ الحضور القوي لأفلام عربية تناقش الأزمات الاجتماعية والسياسية لشعوب المنطقة، كما تسلّط الضوء على العديد من المآزق الأخلاقية الكبرى التي لا زالت تثير الجدل في الأوساط الفكرية والدينية، حيث تمّ تعزيز المكتبة السينمائية للمهرجان بأفلام قيّمة مرشحة للفوز بجوائز أوسكار، نذكر منها الفيلم التونسي "بنات ألفة" الذي يطرح معاناة المواطن العربي مع سياسات التفقير والتجهيل والاستقطاب الإيديولوجي المتطرّف، بينما يتطرّق الفيلم الأردني "إن شاء الله ولد" إلى ازدواجية المعايير في التعامل مع المرأة، حين يتعلق الأمر بقضايا الإرث.
نجد أيضًا حضورًا لافتًا للسينما الخليجية، من خلال عرض الفيلم الإماراتي "ثلاثة" الذي يناقش عجز الإنسان العربي عن التعامل مع الأزمات النفسية كأمراض تستدعي علاجًا طبيًا، بدل الاستنجاد بالخرافة والطقوس الغرائبية.
لقد احتفى المهرجان أيضًا بشجاعة الإنسان الفلسطيني في مواجهة تراجيديا الأرض، من خلال تتويج فيلم "الأستاذ" بجائزة لجنة التحكيم، وجائزة أفضل ممثل للفلسطيني صالح البكري.
إنّ الحاجة لمثل هذه التظاهرات الفنية التي تحفز على الإبداع وتحتفي بروح الاختلاف، هي ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة مُلحّة لإرساء قواعد النهضة العربية المستقبلية.
والمأمول أن يجد الإنسان العربي جسورًا آمنة يعبر منها نحو ضفاف التغيير والحرية والانعتاق.
(خاص "عروبة 22")