اقتصاد ومال

سد النهضة في مواجهة سد مصر العالي

مرّت هذا الشهر ذكريات بدء العمل في سد مصر العالي "9 يناير/كانون الثاني" وافتتاحه في يوم مولد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر "15 يناير/كانون الثاني" الذي وضع مستقبله السياسي كله واستقلال مصر نفسه على المحك في معركة المصير لإنشاء السد الذي غيّر حياة الشعب المصري بأكمله.

سد النهضة في مواجهة سد مصر العالي

تأتي الذكرى هذه المرة بعد أن تم الملء الرابع والأخير لخزان سد النهضة الإثيوبي الذي سيؤثر بالتأكيد على دور سد مصر العالي في توليد الكهرباء وفي حجم مخزون بحيرة ناصر التي تشكل البنك المركزي للمياه في مصر.

وكانت مصر قد طالبت بوقف العمل في سد النهضة إلى أن يتم الاتفاق مع مصر والسودان، ليس رفضًا للسد الذي هو حق لإثيوبيا لتوليد الكهرباء، ولكن لوضع قواعد للملء وإدارة تمرير المياه وضمان السلامة الفنية. لكن إثيوبيا مضت في بنائه وأكملته وملأت خزانه دون أن تعير مصر والسودان اهتمامًا حقيقيًا، بل وزادت على ذلك بتوريطهما في اتفاق الخرطوم الرديء عام 2015 الذي خلق لها حقوقًا مائية لم تكن موجودة، وضرب الاتفاقيات الحامية لحقوق مصر والسودان في مياه النيل الأزرق وبخاصة الاتفاق العمدة الموقّع عام 1902 والذي كان يمنع إثيوبيا من المساس بأي قطرة من مياه النيل الأزرق ونهر السوباط.

التحكم في تدفق المياه خلال سنوات الجفاف التي تتعرّض لها منابع النيل سوف يكون بيد إثيوبيا

وإجمالًا لم تفعل السلطة في مصر أي شيء فعّال لتحقيق مطالبها المتعلقة بفترة الملء (تم)، وإدارة تمرير المياه وفق قواعد محددة وبخاصة في سنوات الجفاف، وضمان ومتابعة السلامة الفنية للسد. واكتفت السلطة بالشكاية المتأخرة لمجلس الأمن. أما الرئيس فقد طلب من رئيس وزراء إثيوبيا في مؤتمر صحفي بأن يقسم بأنه لن يضر بحقوق ومصالح مصر في مياه النيل!!

صحيح أنّ حاجة إثيوبيا للكهرباء للاستهلاك المحلي والتصدير ستجعلها تمرر مياه النيل الأزرق لمصر والسودان، لكنّ التحكم في تدفق المياه خلال سنوات ودورات الجفاف التي تتعرّض لها منابع النيل سوف يكون بيد إثيوبيا التي قد تستولي على جزء مهم من حصتَيّ مصر والسودان، وهو خطر داهم على حياة الشعبين المصري والسوداني.

مفخرة العهد الناصري وأهم مشروع للبنية الأساسية في القرن العشرين

يُعتبر السد العالي مفخرة مصر على مر العصور وأعظم إنجازات العهد الناصري.. وقد تم تكريمه عالميًا باختياره كأعظم مشروع بنية أساسية في العالم في القرن العشرين وبالتالي في التاريخ، ففي أغسطس عام 1999، قامت هيئة تحكيم عالمية ضمت مجموعة من أبرز شركات الإنشاءات والمقاولات، ومنتجي معدات ومواد البناء والتشييد، ومسؤولين حكوميين من القطاع العام، ومسؤولين من القطاع الخاص، ومحرري المطبوعات المتخصصة في البناء والتشييد، بعقد اجتماع على هامش أضخم معرض إنشائي وتجاري وصناعي في القرن العشرين، في "ويسترن هامبشاير" لاختيار أبرز عشرة مشروعات إنشائية في القرن العشرين، وجاء السد العالي في المقدمة كأعظم مشروع بنية أساسية في القرن العشرين وبالتالي في التاريخ.

وجاء في حيثيات اختياره، أنه أعظم عمل إنشائي وهندسي عالمي أحدث تغييرات إيجابية كبيرة في حياة شعب بأكمله، فهو يوفر مياه الشرب والري بصورة منتظمة وآمنة لشعب مصر (أنقذ السد 32 مليار متر مكعب كانت تُهدر في البحر، وتحصل مصر التي تحمّلت كل تكاليف بناء السد وتعويض المتضررين بمن فيهم أهل النوبة في السودان، على 7,5 مليار متر مكعب منها، بينما يحصل السودان على 14,5 مليار متر مكعب، ويضيع 10 مليارات في بحيرة ناصر بالبخر والتسرّب والتشرّب). كما يوفر جانبًا مهمًا من احتياجات مصر من الطاقة (كانت محطته الكهرومائية تغطي 54% من احتياجات مصر في سبعينيات القرن الماضي وساهمت بشكل حاسم في إنارة الريف المصري ومد المشروعات الصناعية بالكهرباء مثل مجمع الألومنيوم في نجع حمادي). كما يختزن كميات هائلة من المياه في بحيرة ناصر تكفي لمواجهة الاحتياجات المائية المصرية في حالة انخفاض الإيرادات المائية لنهر النيل عدة سنوات متتالية كما يحدث في دورات الجفاف السباعي الرهيبة التي تضرب منابع النيل مرة واحدة كل قرن تقريبًا منذ عهد المصريين القدماء وحتى الآن. كما أنه أدى لمضاعفة الإنتاج الزراعي بتوفير المياه للمحاصيل في الأوقات التي تحتاجها وبتحويل ري الحياض ذي المحصول الواحد سنويًا إلى الري الدائم الذي يتيح زراعة محصولين أو ثلاثة في العام. كما فتح المجال أمام زيادة الرقعة الزراعية بنحو 1,3 مليون فدان لو تم ريّها بالغمر، ترتفع إلى أكثر من الضعف لو تم استخدام الري بالتنقيط أو الرش. كما أدى لتحسين الملاحة في النيل على مدار العام سواء لنقل البضائع أو للرحلات السياحية. كما أنقذ مصر من أخطار الفيضانات العالية المدمرة التي كانت تستدعي تخصيص 100 ألف مهندس وعامل لمدة 3 أشهر كل عام لمكافحة الفيضان.

أما السودان فقد أصبح بفضل هذا المشروع أكثر قدرة على تنظيم مياه النيل على مدار العام وعلى مواجهة النقص في الإيرادات المائية في أي عام، لكنه ظل معرّضًا لأخطار الفيضانات العالية.

الاتحاد السوفيتي وتمويل السد بدون شروط سياسية وبشروط مالية ميسّرة

من سخريات القدر أنّ اختيار سد مصر العالي كأعظم مشروع للبنية الأساسية في العالم في القرن العشرين، تم في الولايات المتحدة التي حاولت بكل السبل إحباط مصر ومنعها من إقامة سدها العالي حيث تراجعت عن إقراض مصر لتمويل جزء من تكاليف بناء السد، ودفعت البنك الدولي الخاضع لهيمنتها إلى الانسحاب أيضًا من التمويل.

ولجأ عبد الناصر للاتحاد السوفيتي الذي وافق على تقديم المساعدة الفنية والتقنية والآلات والمعدات والقرضين اللازمين لبناء السد ومحطته الكهرومائية والخطوط التي تنقل الكهرباء إلى كل مصر بشروط مثالية تمثلت في فترة سماح مدتها 10 سنوات وفائدة 2,5% على أن يتم السداد من خلال تصدير سلع مصرية مثل البرتقال والبصل. ولم يتأثر التمويل السوفيتي بالهجمة البوليسية القمعية العنيفة ضد اليسار في مصر في نهاية الخمسينيات وحتى منتصف ستينات القرن العشرين فقد كان تمويلًا بلا شروط سياسية انطلاقًا من مبدأ دعم الدول التي تحاول بناء تنمية مستقلة عن الاستدمار الغربي. لقد حوّل السد العالي مصر من دولة خاضعة لمشيئة نهر النيل وتقلباته خلال العام وتقلباته من عام لآخر، إلى دولة متحكّمة في النهر الأطول على الكرة الأرضية.

المقريزي يسجل أهوال الجفاف السباعي الذي عاصره

لإدراك ما كانت التقلبات العنيفة في نهر النيل تفعله في مصر، يكفي أن نعلم أنّ أدنى التقديرات لعدد سكان مصر عند نقطة الميلاد، كانت عشرة ملايين نسمة، وعندما تم إجراء أول تعداد حقيقي للسكان في أوائل القرن التاسع عشر في عهد محمد علي كان عدد سكان مصر نحو 2,5 مليون نسمة فقط. وكان ذلك الانهيار السكاني ناجم عن الظلم والقهر والجزية والضرائب المختلفة التي كان الحكام الأجانب من الرومان حتى الدولة العثمانية يكبلون المصريين ويسودون معيشتهم بها لعشرات القرون من السنين بما سحق قدرة الأمّة على العيش والتطوّر ونهب مواردها وناتج عمل أبنائها لصالح المحتلين الأجانب. لكنّ سببًا أساسيًا لذلك الانهيار السكاني، كان يكمن في التأثيرات المدمّرة لموجات الجفاف السباعي التي كانت تضرب منابع النيل وكانت تقضي في الغالب على أكثر من ثلثي سكان مصر في كل دورة من دورات الجفاف الرهيبة تلك.

لو لم يفعل عبد الناصر في حياته سوى معركة إنشاء سد مصر العالي فإنه كافٍ لتخليده في أرفع مكان من ضمير الوطن

ويقول المقريزى في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة": ثم وقع الغلاء في الدولة الأيوبية وسلطنة العادل أبي بكر بن أيوب وكان سببه توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة. وكان أهل القرى قد فنوا، حتى أن القرية التي كان فيها خمسمائة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثة"... "وقام العادل في مدة يسيرة بمواراة نحو مائتين وعشرين ألف ميت، وتعطلت الصنائع وتلاشت الأحوال، وفنيت الأقوات والنفوس حتى قيل: سنة سبع افترست أسباب الحياة، فلما أغاث الله الخلق بالنيل لم يوجد أحد يحرث أو يزرع". وقد استبعدت ما ذكره من الأهوال المثيرة للغثيان في أكل كل شيء.

أما في ظل الزيادة الهائلة في عدد سكان مصر في الوقت الراهن فإنّ جفافًا كبيرًا مثل ذلك الذي حدث لمنابع النيل طوال الفترة من العام 1979 حتى العام المائي 1987 كان كفيلًا بإحداث مآسي مروعة تحصد أرواح مئات الآلاف وربما الملايين من المصريين وتماثل المآسي التي وقعت لبلدان منابع النيل في النصف الأول من الثمانينات وبصفة خاصة أثيوبيا وأوغندا. 

ولو لم يفعل الرئيس جمال عبد الناصر في حياته سوى معركة إنشاء سد مصر العالي، وما أداه السد ومحطته الكهرومائية من أدوار تنموية صناعية وزراعية وخدمية واجتماعية هائلة منها إنقاذ مصر من الجفاف السباعي من 1980 إلى 1987، فإنه كافٍ لتخليده في أرفع مكان من ضمير الوطن.

وكان عبد الناصر قد وقف بكل قواه وقاد مصر في ظروف عصيبة في مواجهة أعتى قوى البغي والتسلّط الإستدماري من أجل إنجاز مشروع السد العالي الذي كفل الأمن المائي والحياتي والغذائي لمصر بما اختزنه من مياه في بحيرة ناصر، اعتمدت عليها مصر في سنوات الجمر فمرّت بردًا وسلامًا على مصر وشعبها الى أن جاءت الاغاثة مع فيضان عام 1988.

ما أحوج مصر لاستلهام ملحمة بناء السد العالي لبناء مشروعات إنتاجية وخدمية تُخرجها من الأزمة الاقتصادية

وكانت عملية بناء السد العالي ملحمة حقيقية صهرت الشعب المصري في بوتقة تكامل وطني نادرًا ما تتكرر في تاريخ أي أمّة، خاصة وأنّ بناء السد اقترن بتأميم قناة السويس لاستخدام إيرادها في تمويل بناء السد بما ترتب عليه من عدوان ثلاثي استنهض روح الشعب في مصر والأمّة العربية كلها في تلك اللحظة المصيرية. وقد ذهبت التقديرات في حينه إلى أنّ تكلفة إنشاء السد ومحطته الكهرومائية تبلغ نحو 210 مليون جنيه مصري، ترتفع إلى 400 مليون جنيه مصري إذا أضفنا إليها باقي تكاليف المشروع من ريّ وصرف واستصلاح وإسكان ومرافق وطرق. وكانت تلك التكلفة تعادل 46,7% من الناتج القومي المصري في عام 1953 والذي بلغ 856,4 مليون جنيه مصري.

صحيح أنّ تلك الأموال كانت ستنفق على مدار عشرة أعوام، لكن ذلك كان سيعني تخصيص نحو 5% من الدخل القومي سنويًا لتمويل المشروع. وحتى ندرك ضخامة الأمر فإنّ تخصيص 5% من الدخل القومي المصري سنويًا لأي مشروع في الوقت الراهن (العام المالي 2023/2024) يعني تخصيص نحو 592 مليار جنيه سنويًا لمدة 10 سنوات بالأسعار الثابتة لعام 2023/2024.

وما أحوج مصر لاستلهام ملحمة بناء السد العالي لبناء مشروعات إنتاجية وخدمية تُخرجها من الأزمة الاقتصادية الممتدة وتُمكّنها من تحسين ميزانها التجاري الذي يُعد العجز الهائل فيه كعب أخيل للاقتصاد ولسعر صرف الجنيه المصري.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن