هناك علاقة وثيقة بين ما يحدث من تطورات في المنطقة العربية والشرق الأوسط وتحولات النظام الدولي، وليس من قبيل المبالغة القول إن منطقتنا كانت عاملا مهما في تحول موازين القوى الدولية في أكثر من مناسبة. وعلى سبيل المثال، فإن أحداث العدوان الثلاثي على مصر 1956 أسرعت بصعود الولايات المتحدة إلى قمة العالم وتراجع النفوذ الإمبراطوري لبريطانيا وفرنسا. وأدت المواجهة بين واشنطن وموسكو في حرب 1967 إلى تبني سياسة الوفاق بين البلدين. وكان من شأن الأحداث التي تلت الغزو العراقي للكويت في 1990 وتفكك الاتحاد السوفيتي، تبشير الرئيس الأمريكي "بوش الأب" بمولد نظام عالمي جديد.
من المهم أن نتذكر هذه السوابق ونحن نراقب تصرفات الدول الكبرى تجاه ما يحدث في المنطقة بعد عملية حماس في 7 أكتوبر 2023، ورد الفعل الإسرائيلي العنيف والمبالغ فيه على مدى الأسابيع التالية، وكيف تعاملت القوى الكُبرى في النظام الدولي معها من مُنطلق رؤيتها لمصالحها ولمكانتها في هذا النظام.
انتهزت الولايات المتحدة الفرصة للتحرك بسرعة وتأكيد دورها العسكري والسياسي في المنطقة، ابتداء من إرسال سفن حربية وحاملات طائرات إلى البحر الأبيض المتوسط وتواصل دعمها لإسرائيل، وصولا إلى الضربات الجوية العديدة على الحوثيين في اليمن، وعلى قواعد خصومها في العراق، وإعلانها إنشاء تحالف دولي لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
والرسالة التي تبعثها واشنطن هي أنها ما زالت القوة الأكبر في المنطقة، التي تستطيع أن تستخدم أداتها العسكرية في أكثر من مكان، والقادرة على منع صدور أي قرار من مجلس الأمن لا توافق عليه، والقادرة أيضا على العمل الدبلوماسي النشط وبلورة المبادرات الكفيلة بحل الصراع.
تريد أمريكا بذلك أن تعوض ما اهتز من هيبتها الدولية بسبب تخليها عن حلفائها وانسحابها من أفغانستان بعد عشرين عاما، وتسليمها الحكم لحركة طالبان بعد أن غزت واشنطن أفغانستان في 2001 لإبعادها عن الحكم. تأثرت صورتها أيضا لعدم قُدرتها على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا من خلال دعم حليفتها أوكرانيا التي عجزت عن تحقيق أي نجاح فيما سمى الهجوم المضاد في 2023. في المقابل، وفرت الحرب على غزة الفرصة لروسيا للتوسع في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، بعد أن انصرف اهتمام العالم ووسائل إعلامه إلى ما يحدث في غزة والضفة الغربية. فصعّدت موسكو أعمالها القتالية، وسرّعت وتيرة الضربات ضد كييف.
ووفرت الحرب أيضًا المناسبة لانتقاد واشنطن وتحميلها مسئولية ما يحدث. فصرح الرئيس الروسي بوتين في 31 أكتوبر 2023 بأن الغرب يتحمل مسؤولية الأزمة في الشرق الأوسط، وأن واشنطن تسعى لنشر الفوضى في المنطقة. وأضاف وزير خارجيته سرجي لافروف في 18 يناير 2024 أن على أمريكا التخلي عن سياسة المعايير المزدوجة وأن بلاده تعمل مع الشركاء لكسر هيمنة طرف واحد على ملف التسوية في الشرق الأوسط. أكدت روسيا مساندتها الكاملة للحقوق الفلسطينية وللموقف العربي، وسعت لإبراز علاقاتها الإيجابية المُتطورة مع الدول العربية التي كان من مظاهرها الزيارة الخاطفة التي قام بها بوتين إلى السعودية والإمارات يوم 6 ديسمبر 2023، ومشاركته من خلال الزووم يوم 23 يناير 2024، في الاحتفال بوضع الصبة الخرسانية للمفاعل الرابع لمحطة الضبعة النووية في مصر. تُدعِم هذه المواقف الروسية دور بوتين في مواجهة واشنطن والغرب، وتحسين صورة بلاده في دول الجنوب.
أما الموقف الأكثر إثارة للتفكير فهو موقف الصين، التي تبنت موقفا حذرا رغم ما تمثله تداعيات الحرب على غزة من تهديدات لمصالحها، ومنها أن ضربات الحوثي أدت إلى عدم انتظام الملاحة في البحر الأحمر بسبب ارتفاع تكلفة النقل والتأخر في سلاسل الإمداد. لم ترغب الصين في الانخراط أو التورط في النزاع، رغم أنها أصبحت الشريك التجاري الأول لأغلب الدول العربية، ورغم تبلور اهتمامها السياسي بالمنطقة الذي تمثل في وساطتها الناجحة بين الرياض وطهران لعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما في مارس 2023، وتعيين مبعوث خاص صيني لمتابعة الموقف في الشرق الأوسط.
وعلى مستوى أعمق، مثلت أحداث الشرق الأوسط تحديًا لقدرة الصين على حماية الممرات الدولية المرتبطة بتجارتها ومواجهة التهديدات المحتملة للطرق والممرات الداخلة في نطاق مبادرة الحزام والطريق. ولا يعتد في هذا الشأن بالتزام الصين بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول، فشتان بين الالتزام بهذا المبدأ بشكل عام، وعدم التدخل للرد على أخطار تهدد مصالحها الحيوية. ظهر هذا الحذر الصيني في عدم استخدامها حق الفيتو وامتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن، بإدانة هجمات الحوثيين على السفن التجارية وسفن النقل في البحر الأحمر. كما ظهر في البيان المصري الصيني في 14 يناير 2024، والذي دعمت فيه الصين المواقف العربية تجاه القضية الفلسطينية، ولكن مع عدم الإشارة إطلاقا إلى إسرائيل، حتى عندما أشار البيان إلى إنهاء الاحتلال، فقد جاءت الإشارة في المطلق دون تحديد الاحتلال الإسرائيلي.
تتسق هذه السياسات مع التوجهات الاستراتيجية الكبرى للدول الثلاث، أمريكا تريد المحافظة على وضعها المتميز في النظام الدولي، وتسعى لإضعاف القوى التي تُحاول تغييره. وروسيا تسعى إلى إنهاء هيمنة القطب الواحد، والاتجاه إلى عالم مُتعدد الأقطاب، وإنهاء سيطرة واشنطن على مُقدرات العالم. أما الصين فإنها تُعطي الأولوية لاستعادة مُعدلات نموها الاقتصادي وزيادة علاقاتها التجارية مع جميع الأطراف جنبًا إلى جنب مع تحاشي الانخراط في الصراعات السياسية، بينما في الوقت نفسه تُدعِم تحالفها مع روسيا بهدف تغيير النظام الدولي.
فكيف سوف تؤدي تداعيات أحداث الشرق الأوسط إلى تغيير التوازن بين هذه الدول الثلاث ومن ثَم على شكل النظام الدولي؟.
("الأهرام") المصرية