اقتصاد ومال

يا مهمّشي العالم.. اتحِدوا ضد الاحتكار والفساد!

ما الفن؟.. كثيرون طرحوا هذا السؤال مثل؛ تولستوي، وهربرت ريد، وكولينجوود، وإرنست فيشر، ولوسيان جولدمان، وتوفيق الحكيم، ولويس عوض، ويحيي حقي، وغيرهم. ورغم اختلاف المقاربات حول طبيعة الفن ودوره، إلا أنّ هناك اتفاقًا عامًا على أنّ الفن الأصيل والحقيقي هو الفن القادر على الجمع بين ترقية البشرية وتقدّم المجتمعات وتحفيز المواطنين بما يصب في الخير العام.

يا مهمّشي العالم.. اتحِدوا ضد الاحتكار والفساد!

في هذا السياق، يمكن القول إنّ فيلم "وُنكا"؛ الذي بدأ عرضه منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، يقع ضمن الأعمال الفنية الأصيلة والحقيقية. فلقد استطاع الفيلم أن يجمع بين الفن الخالص لوجه الجمال الفني وبين الفن الذي يُسخّر عناصره المتنوّعة من أجل قضية مجتمعية/عولمية حالة/ضاغطة.

لذا اكتسب الفيلم سمة الارتقاء الفني، وظني أنه سيحظى بالبقاء التاريخي في الذاكرة، وهو ما تؤكده ردود فعل ملايين المشاهدين عبر العالم، سواء من شاهدوه عبر المنصات الرقمية أو من شاهدوه في قاعات السينما، حيث بلغت إيراداته في شهر ونصف الشهر 600 مليون من الدولارات.

الفيلم مستوحى من رواية أدبية كتبها للأطفال الأديب البريطاني "رولد دال" (1916 ــ 1990) عنوانها "تشارلي ومصنع الشوكولاتة". ويُعتبر فيلم "وُنكا" الثالث من مجموع الأفلام التي استلهمت قصة "رولد دال".

نجح "كينج" في أن يُقدّم حقيقة شراسة الرأسمالية الاحتكارية في عالم اليوم 

في الطبعة الثالثة من الفيلم نجح المخرج البريطاني "بول كينج" (46 عامًا) أن يتحرّر من المعالجات السينمائية السابقة للقصة التي اعتمدت على التوجّه حصريًا للأطفال. صحيح أنه أبقى على الشكل الموسيقي الغنائي والاستعراضي في تقديم معالجته، وعلى أن تكون البطولة لطفلين: طفل هو "ويل وُنكا" وطفلة سمراء هي "نوودِل"؛ إلا أنه حرّر فيلمه من حصرية التوجّه للأطفال، إذ جعله فيلمًا للمجتمع بكل من فيه، حيث يقوم فيه الطفلان "وُنكا" و"نوودِل"؛ بعمل كبير لصالح المهمّشين والفقراء والمنبوذين والمذلولين والمظلومين والضعفاء والمضطهدين والمقهورين، وضد المحتكرين، والفاسدين، والسلطويين.

على مدى ساعتين تقريبًا، نجح "كينج" في أن يُقدّم من خلال الفانتازيا الموسيقية حقيقة شراسة الرأسمالية الاحتكارية في عالم اليوم، وكيف يعمل بدأب المحتكرون وأصحاب "الكارتلات" الكبرى بالتحالف مع الفاسدين من أصحاب السلطة السياسية والبيروقراطية والبوليسية والدينية على تدمير أي محاولة لإقامة أي تطلعات اقتصادية مستقلة خارج شبكة التحالف السوداء.

يحكي الفيلم قصة "وُنكا" الذي يحلم ويسعى لتأسيس مصنع ينتج شوكولاتة في إحدى المدن التي تتشابه مع كثير من مدن العالم. شوكولاتة، إضافة لجودة المواد المُصنّعة منها، وطعمها اللذيذ، وسعرها المقبول والمعقول، تمنح من يأكلها القدرة على الحلم والتحليق والعمل لتحقيق كل ما هو إيجابي وخير. إلا أنّ "وُنكا" يصطدم بعديد المؤامرات من قبل محتكري صناعة الشوكولاتة الذين يقومون بكل ما هو غير مشروع من أجل قطع الطريق على مسعى "وُنكا" الجميل والنبيل والحيلولة دون تحقيق حلمه الذي يهدد مصالحهم، خاصة وأنهم لا يرون ضرورة في صنع شوكولاتة ذات مزايا تمد الناس بقدرات تعينهم على تغيير الواقع.

لذا لم يتوانوا عن وضع السم في شوكولاتة "وُنكا" عند افتتاحه لمصنعه في المرة الأولى غير عابئين بتسمم الناس، وقتل "وُنكا"، ورشوة البوليس لغلق مصنع ومتجر "وُنكا"، ودفع رجل الدين (الذي قام بدوره مستر بين) للحديث العلني ضد تطلعات الغالبية من المواطنين الذين يعارضون مصالح هؤلاء المحتكرين.. إلخ.

إلا أن "وُنكا" مع "نوودِل" قاما بحشد المنبوذين لمواجهة المحتكرين وكشف دائرة الفساد في ضوء خطة هدفها تحرير المدينة من هذا التحالف الأسود وتمكين الناس من إقامة عالم/عوالم حرّة يقومون بتشكيله بأنفسهم أو حسب الأغنية التي غناها "وُنكا" وفريقه من المهمّشين "عالمُك.. عالم من صنعك تكون فيه حرًّا".

قارب "كينج" في فيلمه العلاقة المُختلة بين القلة الثرية وبين الأغلبية من مواطني الكوكب والتي نتج عنها لا مساواة وعدم إنصاف غير مسبوقَين تاريخيًا، وذلك برؤية سينمائية تقوم على الفانتازيا الموسيقية في معالجة واقع حقيقي، ومعالجة تجمع بين الحلم/السحر والواقع. مقاربة مفادها أنّ ما نتصوّره حلمًا يمكن أن يكون حقيقة شريطة الإيمان به والدأب على تحقيقه، وأنّ تغيير العالم وصناعة عالم أكثر حرية وعدلًا لا يحتاج لقوة سحرية بقدر حاجته إلى وحدة المهمّشين.

ما نتصوّره مستحيلًا نقدر بتضامن المقهورين أن يكون ممكنًا

وفي هذا المقام، يمكن القول إنّ "كينج" قد أكد ما ذكره الفيلسوف الفرنسي "إدجار موران" (103 سنة في نجوم السينما، ترجمة إبراهيم العريس 2012) بأنّ فن السينما "قد صيغ بهدف دراسة الواقع الإنساني"؛ من هذه الزاوية استطاع الفيلم أن يجسّد قسمات العالم الراهن وطبيعة العلاقة الحاكمة بين الطبقات ببساطة، وجمال، ومتعة. وما روح السينما Soul of the Cinema؛ حسب "موران" أيضًا في كتابه "The Cinema, or The Imaginary Man"؛ صدر سنة 1978، إلا في أن يصبح السحر حقيقة: السحر الذاتي الخاص بالشريط السينمائي من جانب، والقناعة بأنّ السحر هو الحلم الذي يمكن تحقيقه إذا ما وفّرنا الظروف الموضوعية من جانب آخر. وما نتاجات السحر في فيلم "وُنكا" إلا إنجازات يمكن بلوغها بالدأب الجماعي بين المهمّشين. بلغة أخرى، أنّ ما نتصوّره مستحيلًا نقدر بتضامن المقهورين أن يكون ممكنًا.

تلك هي رسالة فيلم "وُنكا" للإنسان/المواطن المعاصر في كل مكان على الكوكب، تجسّدت موسيقيًا غناءً واستعراضًا، من خلال شريط سينمائي ممتع ومبهر، مانحًا الأمل/الوعي للمهمّشين بقدرتهم معًا على تجاوز الزمن الاحتكاري بمواجهتهم للاحتكاريين والفاسدين والمستبدين السياسيين والدينيين؛ في التأسيس لزمن جديد عادل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن