لكنّ هذه الثروات والمقدّرات تعاني في مجملها من مشكلَيْن رئيسيَيْن:
- ضعف وعدم استيعابها: فكثيرة هي السهول التي لم تُزرع بعد، أو لم تُستصلَح لهذا الغرض، أو لم تخضع للفحص العلمي والتقني بغرض التخلّص من بعض مشاكلها كالفيضانات مثلًا؛ وكثيرة هي المعادن التي لم تُكتشَف بعد في جوف الأرض أو في الجبال والهضاب العربية الشاهقة، أو لم تُبحث بالقدر الكافي قابليّات وجودها في هذه المنطقة أو تلك؛ ناهيك عن تأخّر قدرات التنقيب على البترول والغازَيْن الطبيعي والمُسال في عددٍ من الدول العربية (مثل سوريا وموريتانيا). ويرجع سبب هذا المشكل أساسًا إلى تأخّر قوى الإنتاج العربية، وبالخصوص تلك المتعلّقة بالكشف والتنقيب واللوجيستيّات والإصلاح الزراعي والصناعي، ضمن تأخرٍ عامّ في النظام الاجتماعي الرأسمالي العربي.
ينبغي تحويل الثروات الطبيعية إلى قوة جيو-اقتصادية واستراتيجية تعزّز الوجود العربي في الميزان الدولي
- سوء تدبيرها: فحتّى عندما تكون الدول العربية قد وضعت يدها على بعض ثرواتها ومقدّراتها الطبيعية، فإنّها تفتقر بهذا القدر أو ذاك إلى حظٍ وافرٍ من الخبرة في مجالاتٍ عدةٍ، من قبيل تطوير الصناعات التحويليّة المرتبطة بالبترول والغاز، وتسويق المنتوج الزراعي وتوزيع المِلكية الزراعية توزيعًا يدرّ الربح ويضاعف العائدات الزراعية، واستثمار المعادن النفيسة والنادرة في الصناعات التكنولوجية والطاقية البديلة بدل عرضها للتصدير في شكلها الخامّ وبأسعارٍ لا تعكس قيمتها في مصانع السيارات الكهربائية والآليات الطاقية، وتحويل الثروات الطبيعية (النفط، الغاز، الفوسفات... إلخ) إلى قوةٍ جيو-اقتصادية واستراتيجية تعزّز الوجود العربي في ميزان القوى الدولي (بلغة الاقتصاد السياسي: في "التقسيم الدولي للعمل"). إنّ سوء تدبير الموارد مرتبط أيضًا بضعف الخبرة والتقنية والبحث العلمي، أي بتأخّر قوى الإنتاج العربية.
هذه مُعيقات اقتصادية وتقنية، لكنّها في حقيقتها إفراز لمُعيقات أخرى إمّا اقتصادية عامة، وإمّا سياسية وثقافية لا ينبغي إهمالها. بالنسبة للمُعيقات الاقتصادية العامة، نقصد بها أساسًا مُعيق التبعيّة الاقتصاديّة لدى دول الوطن العربي كافّة، وهي تبعيّة - على الرَّغم من تراجع وطأتها في بعض المجالات - ما زالت سارية المفعول وقائمةً ليس في الوطن العربي وحده، بل في دول العالم كافّة، بما فيها أوروبا في علاقتها بأميركا (مثال: الضغط الأميركي على أوروبا برفع الرسوم الجمركيّة على صادراتها).
ويمكننا تفسير "التبعيّة العربيّة" بعاملَيْن:
- العامل الأول، هو أسبقيّة الغرب في التقدّم التقني والعلمي، وهي أسبقيّة في "التحديث" لم تتفتّق بفعل النبوغ الغربي فحسب كما يروّج البعض، وإنّما كانت نتاج صعود طبقةٍ جديدةٍ في المشهد الاجتماعي، لا على حساب الطبقة القديمة ونظامها الاجتماعي هناك (الإقطاع)، بل أيضًا على حساب القدرات الكامنة في "مجتمعات الجنوب" (ومنها العالم العربي والإسلامي). فلم تكن الحضارة الغربية لتقوم إلّا على أنقاض "طموحٍ" عربيّ وإسلاميّ تمّ تحطيمه، ولم تكن البورجوازية الأوروبية لتجد سبيلًا لتطوير قواها الإنتاجية إلّا بحملاتٍ مُدبَّرةٍ للاكتشاف (اكتشاف أميركا مثلًا) والاحتلال (احتلال الإسبان والبرتغاليين للسواحل المغربية مثلًا).
دول الوطن العربي وجدت نفسها أمام واقع استعماريّ جديد هو "التبعية" الاقتصاديّة والسياسية والاجتماعية والثقافية
- أمّا العامل الثاني، فهو إخضاع الوطن العربي لقبضة الاستعمار العسكري (القديم) لعقودٍ من الزمن شلّت قدرته على التحوّل "الطبيعي"، وبالتالي على تطوير بنيته الإنتاجية وفق حاجته ووفق تناقضاته الاجتماعية الداخلية. أمّا ما تحقّق من انتقالٍ للخبرة الإنتاجية من الرأسمالية الغربية إلى البورجوازيات العربية الصاعدة فقد تمّ رغمًا عن أنف تلك الرأسمالية، وعلى هامش ممارستها الاستغلالية وبنوعٍ من المحاكاة لقواعدها الاستغلالية في ظلّ رقابةٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ صارمةٍ لا تسمح بذلك. وبعد استقلال دول الوطن العربي، فقد وجدت نفسها أمام واقعٍ استعماريّ جديدٍ، هو ما سُمّي في أدبيّات "الاقتصاد السياسي النقدي" بـ"التبعية" التي لم تقتصر في بعض الحالات على التبعيّة الاقتصاديّة، بل فرضت تبعيّات أخرى سياسية واجتماعية وثقافية، حفاظًا على التفاوت "شمال / جنوب"، وتدبيرًا لاستراتيجية النفوذ في العالم والوطن العربي لفائدة "المركز الرأسمالي".
التعدّدية الصاعدة في مصلحة الوطن العربي شرط أن يُحسن استثمارها
الذي يجب الانتباه إليه هو أنّ قرنَيْن من الزمن الاستعماري - تقريبًا - كانا كافيَيْن لوضع العالم على سكةٍ جديدةٍ، تُعيد فيها أميركا، والغرب عمومًا، تقليب الأوراق، في ظلّ صعودٍ صينيّ ورأسماليّاتٍ وطنيةٍ أخرى مُنافِسةٍ (الهند، البرازيل، روسيا... إلخ)، وفي ظلّ تفكيكَيْن ضخمَيْن يهدّدان الاتحاد الأوروبي (تفكّك داخلي بعد خروج بريطانيا، وتفكّك في علاقته بأميركا خصوصًا مع صعود ترامب ومجمعه الرّأسمالي).
تصبّ هذه التعدّدية الصاعدة في مصلحة الوطن العربي، شرط أن يُحسن استثمارها من جهتَيْن: من جهة تُفاوض كلّ دولة عربية على حدة للحصول على القدر الأكبر من مصالحها وحقّها في تطوير قدراتها الصناعية والتقنية، ومن جهة تقوية مؤسّسات الوحدة السياسية والاقتصادية العربية بالموازاة مع تراجع النظام العالمي القديم وتبلور النظام التعدّدي أو الثنائي (أميركا / الصين) الجديد خطوةً بخطوة.
(خاص "عروبة 22")