إنطلاقًا من ذلك، تولى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، بشكل أساسي، رفع مستوى التهديدات وطرح المعادلات المرتبطة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، خلال صولات وجولات مكوكية قام بها على مجموعة من الدول منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزّة، متوعّدًا باتساع رقعة الحرب من لبنان إلى سوريا والعراق وصولًا إلى اليمن، على وقع تأكيدات متكررة ومتبادلة بين طهران وواشنطن تفيد بأنهما يبقيان على خطوط التواصل بينهما ولا يريدان بأي شكل من الأشكال "الصدام المباشر"، وهو ما عادت فشددت عليه صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية التي نقلت قبل أيام عن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أنه أصدر أمرًا للقيادة الإيرانية بتجنّب الحرب المباشرة مع الولايات المتحدة والسعي إلى النأي بطهران عن تصرّفات الجماعات المتورّطة في مقتل الجنود الأميركيين!.
في هذا السياق، تشير مصادر مواكبة عن كثب لمجريات الأحداث عبر "عروبة 22"، إلى أنه "في الأيام الأولى من العدوان، كانت المهمة ملقاة بشكل رئيسي على عاتق "حزب الله"، الذي تولى التصعيد "المدروس" عبر جبهة جنوب لبنان، بوصفها جبهة "مساندة ومشاغلة"، لكن لاحقًا تمكّن "الحوثيون" من سرقة الأضواء الإقليمية والدولية ربطًا بخطورة الهجمات التي يقومون بها في البحر الأحمر والتداعيات العالمية الناجمة عنها.. ومع تطوّر مسار الأحداث، أتى الإستهداف الإسرائيلي المباشر لقيادات في "الحرس الثوري الإيراني" ليشكّل إحراجًا كبيرًا لطهران، ما اضطرها إلى الدخول المباشر على الخط، لكن بهجمات طالت أهدافًا في العراق وسوريا وباكستان وليس في إسرائيل ولا ضد قواعد أميركية في المنطقة، بل كانت المفارقة أنّ القيادة الإيرانية حرصت على التأكيد فورًا على أنّ هجماتها الصاروخية "غير مرتبطة بأحداث المنطقة"، وذلك في إطار تجديد رغبتها بعدم الانزلاق نحو المواجهة مع الولايات المتحدة".
وما ينبغي التوقف عنده، بحسب المصادر نفسها، هو "ملاقاة واشنطن طهران عند "منتصف الطريق" في لعبة "توزيع الأدوار" ومصادقتها على معادلة "المعارك بالوكالة"، بدءًا من مقاربتها لطريقة التصدي للهجمات في البحر الأحمر، وصولًا إلى طريقة الرد على قتل وإصابة جنود أميركيين في استهداف موقع "البرج 22" عند الحدود الأردنية - السورية، إذ ورغم تأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ الهجوم تم من قبل الفصائل الإيرانية في العراق وبالأسلحة التي تزوّدها بها إيران، سارع، كما فعلت وزارة الدفاع الأميركية، إلى الإعراب عن القناعة المستمرة بأنّ كلًا من إيران وأميركا لا تسعيان إلى الدخول في حرب مباشرة".
وإثر تحسّب المسؤولين الإيرانيين من ردة الفعل الأميركية بعد تواتر معلومات صحافية عن إمكانية استهداف مواقع داخل الأراضي الإيرانية، عمدوا إلى "التنصل" من هذا الهجوم، بالتوازي مع الإيعاز لكتائب "حزب الله" في العراق للإعلان عن تعليق عملياتها العسكرية ضد القواعد الأميركية، وتلفت المصادر نفسها إلى "ضرورة التوقف عند توقيت هذا الهجوم الذي جاء بالتزامن مع مبادرة "حزب الله" إلى رفع مستوى عملياته العسكرية، كمًا ونوعًا، على الجبهة الجنوبية للبنان مستعرضًا قدراته الصاروخية المتطوّرة في المعركة".
أما عن خلفيات هذا التصعيد الإيراني على أكثر من جبهة بالتزامن مع المسار المتصاعد عبر الوسطاء للتوصل إلى "صفقة تسوية" توقف الحرب في غزّة وتشمل تبادلًا للمعتقلين والمحتجزين بين إسرائيل و"حماس"، فتضع المصادر هذا التصعيد ضمن إطار أجندة "المشاغلة والمشاغبة" الإيرانية، في سياق الرد على المعلومات المتصاعدة عن تقدّم في مفاوضات التسوية، غداة الإجتماع الذي عُقد في العاصمة الفرنسية باريس، بالإضافة إلى الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى واشنطن، حيث أعلن عن وجود "تقدم جيّد" قد يؤدي إلى "وقف دائم لإطلاق النار"، وذلك بالتوازي مع تسليم رئيس المخابرات المصرية عباس كامل حركة "حماس" بنود الورقة المتفق عليها في الاجتماع، تمهيدًا لإبرام صفقة الهدنة والتبادل.
وفي ضوء ذلك، ترى المصادر أنّ "هذا الواقع دفع طهران، التي استثمرت في عملية "طوفان الأقصى" إلى أبعد الحدود وصولًا إلى الإيحاء بارتباط هذه العملية بالإنتقام لمقتل قاسم سليماني، نحو محاولة تأجيج الوضع الإقليمي لحجز مقعد لها على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة في سبيل إيقاف الحرب، بعدما لاحظت أنّ الطرف الرئيسي الذي يتولى هذه المهمة هو الطرف العربي سواءً عبر الوسيط القطري أو الوسيط المصري، الأمر الذي أدى ربما إلى اتخاذ القيادة الإيرانية قرار التصعيد العسكري، بالتوازي مع ما تردد من معلومات عن دفعها حركة "الجهاد" إلى عرقلة مفاوضات التهدئة، من أجل إرسال رسالة إلى من يعنيهم الأمر، تحديدًا في واشنطن، بأنّ طهران حاضرة في مشهد الحرب وبالتالي لا يمكن تجاوزها في مشهد التسوية".
ما تقدّم يقود، وفق المصادر، إلى معادلة "السير على حافة الهاوية" التي ستترسّخ أكثر إيرانيًا في المرحلة المقبلة، لا سيما بالاستناد إلى "ما اتضح من حجم ومكان الرد الأميركي على هجمات الفصائل الإيرانية في المنطقة واستمرار إدارة بايدن في تحييد طهران عن المواجهة العسكرية، وهي معادلة تسعى القيادة الإيرانية من ورائها إلى تحقيق عدة أهداف: أولًا، حجز موقع متقدّم لطهران على طاولة مفاوضات التسوية لإنهاء حرب غزّة، وثانيًا تعزيز دور ووضع فصائلها في المنطقة بعد انتهاء الحرب، سواءً من خلال تكريس شرعية "الحوثيين" في المشهد اليمني، أو فرض سطوة الفصائل الموالية لها على المشهد العراقي، أو عبر السعي إلى إجراء مقايضة مع الأميركيين حول الوضع الحدودي عند جنوب لبنان تسمح بتمكين "حزب الله" من بسط تصوّره ضمن إطار ترتيب الأوضاع الداخلية والسياسية والرئاسية في المشهد اللبناني".
(خاص "عروبة 22")