حروب بلا نهايات حاسمة

العديد من الحروب في السنوات والعقود الأخيرة لم تعد تعرف نهايات حاسمة إلا فيما ندر. لم نعد نرى الحروب والمعارك والصراعات التي تنتهي بالضرب القاضية بل بالنقاط. وفي بعض المرات فإن كل أطراف الصراع يعلنون أنهم انتصروا بما يجعل غالبية المتابعين والمشاهدين ‏وحتى الأنصار يصابون بالاندهاش والحيرة والارتباك.

‏الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، والتي استمرت 12 يوماً، لم تكن استثناءً، بل تأكيد لظاهرة الحروب المفتوحة. ‏ربما هناك معارك قليلة هي التي انتهت بصورة حاسمة وغير قابلة للشك والجدل مثل إخراج قوات الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين من الكويت في يناير 1991، ثم هزيمة وإسقاط نظامه على يد القوات الأمريكية والبريطانية في مارس 2003. ‏البعض يرى أن غزو القوات الأمريكية لأفغانستان في خريف 2001 بعد حادثة برجي التجارة في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 كانت نصراً مبيناً، لكن ورغم فارق الإمكانيات المهول بين الجانبين ورغم الدمار الذي سببته القوات الأمريكية هناك، فإنها في نهاية الأمر انسحبت بطريقة مهينة من أفغانستان في بدايات عهد الرئيس السابق جو بايدن في أغسطس 2021. ‏

البعض يعتبر هذا الخروج المهين شبيهاً بخروج القوات الأمريكية من فيتنام مطلع السبعينات من القرن الماضي، بعد سنوات الوحل في حرب تركت جروحاً غائرة في غالبية المجتمع الأمريكي. ‏في 12 يوليو 2006 اندلعت الحرب الدامية بين إسرائيل ومقاتلي حزب الله في جنوب لبنان واستمرت 34 يوماً، وانتهت بصدور قرار مجلس الأمن رقم 1701 وهو القرار الذي لا يزال يثير الجدل حتى الآن وكل طرف يفسره بطريقته الخاصة، ‏حزب الله اعتبر نفسه منتصراً انتصاراً ساحقاً لأنه أجبر إسرائيل على الانسحاب، والأخيرة تقول إنها انتصرت ودمرت جنوب لبنان تقريباً.. لكن النتيجة السياسية أن شوكة حزب الله صارت أقوى في لبنان بعد هذه المواجهة بصورة لافتة، وصار اللاعب الرئيسي في المشهد اللبناني قبل أن يتلقى ضربة موجعة في الحرب الأخيرة.

‏وحينما سيطرت حركة حماس على قطاع غزة بعد الانقلاب على السلطة الفلسطينية في عام 2007، دخلت في مواجهات متعددة مع الجيش الإسرائيلي طوال السنوات الماضية، ورغم الضربات المؤلمة التي تلقتها إلا أنها تعتبر مجرد بقائها انتصاراً لها.. ‏لكن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس ضد المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، جعلت إسرائيل تشن أكثر هجماتها وحشية على غزة، وحولتها إلى مكان غير صالح للحياة لسنوات طويلة.

وهو ما يعني أن هذه المعركة انتهت بصورة حاسمة إلى حد كبير، رغم أن بعض أنصار حركة حماس يعتبرون أن مجرد عدم استسلامها حتى الآن يعتبر نصراً. ‏الأمر نفسه ينطبق على الضربات النوعية التي شنها الجيش الإسرائيلي ضد حزب الله في معظم أنحاء لبنان وليس الجنوب فقط. أداء الحزب العسكري ظل قوياً لمدة 11 شهراً، إلى أن تمكن الجيش الإسرائيلي وأجهزته الاستخباراتية من تنفيذ عملية البيجر في 17 سبتمبر الماضي، ثم اغتال زعيم حزب الله حسن نصر الله في 27 سبتمبر الماضي ومعه عدد كبير من قادة وكوادر الحزب.

هذه العمليات قلبت المعادلة ورغم وقف إطلاق النار في نوفمبر الماضي، فإن إسرائيل تشن عمليات عسكرية طوال الوقت ضد قواعد الحزب ومقاتليه بدون قدرة الأخير على الرد لأسباب كثيرة. وإذا كان البعض يعتقد أن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في 9 ديسمبر من العام الماضي نهاية للصراع، إلا أن بعض المراقبين يؤكدون أن الوضع لا يزال شديد السيولة، فحركة داعش لا تزال تنفذ عمليات إرهابية كما حدث في تفجير إحدى الكنائس مؤخراً، والقوى المحسوبة على النظام السابق لم ترفع الراية البيضاء حتى الآن، وإسرائيل هي الرابح الأكبر بعد تركيا، حيث تمكنت من احتلال أراضٍ جديدة إضافة لهضبة الجولان. المبدأ نفسه ينطبق على الوضع في ليبيا، فالطرفان ربما قبلا حتى إشعار آخر بنتيجة التعادل بعد مواجهات عنيفة منذ سقوط نظام معمر القذافي. وبالتالي فلا يوجد طرف يستطيع القول إنه حقق انتصاراً ساحقاً. ‏

الأمر ذاته يتكرر في السودان منذ اندلاع الصراع في 15 أبريل 2023 وكل طرف يعلن أنه حسم الأمر وهو ما لم يحدث على أرض الواقع. نعود إلى ما بدأنا به ونشير إلى أنه وفي الحرب الأخيرة، فإن إسرائيل تقول إنها دمرت المنشآت النووية الإيرانية ومعظم منظومات الدفاع الجوي ومخازن الصواريخ البالستية، ‏وقتلت عدداً كبيراً من قادة الجيش وعلماء البرنامج النووي الإيراني. المنطق نفسه تقوله الولايات المتحدة الأمريكية التي شاركت في اللحظات الأخيرة بإلقاء القنابل الخارقة للتحصينات على موقع فوردو لتخصيب اليورانيوم. أما إيران فتقول إنها ردت على إسرائيل في عمقها واستهدفت العديد من المواقع والمنشآت الحيوية والعسكرية، واستمرت صواريخها تصل إلى قلب إسرائيل حتى اللحظة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.

عموما تعلمنا دروس التاريخ أن حسم المعارك والحروب العسكرية لا يكون بعدد القتلي والمصابين أو البيوت والمنشآت المدمرة لكن بالنتائج السياسية التي تتحقق وتتجسد على الأرض، ونحن في انتظار ذلك حتى نرى من الذي انتصر ومن الذي انهزم؟

(البيان الإماراتية)

يتم التصفح الآن