بصمات

.. في الحاجة إلى تجاوز الردّة الحضارية

عندما تحدّث جورج طرابيشي موفّى ثمانينيات القرن الماضي عن مخاطر ما وصفه بالردّة باعتبارها نقيضًا للنهضة والحداثة، ونكوصًا عن مختلف الجهود الإصلاحية والأدبيات التي تأسّست بمقتضاها، فإنّ بعضهم لم يأخذوا تحذيره مأخذ الجدّ، إذ صنّفوه ضمن المبالغات الخطابية الشائعة لا سيما أنّه نبّه إلى إمكانية دخول العالم العربي إلى عصور مظلمة جديدة. غير أنّ تسارع الأحداث وتلاحقها منذ حرب الخليج الثانية سنة 1991 وإلى اليوم أكسب حديثه مصداقيةً وبُعدًا استشرافيًا.

.. في الحاجة إلى تجاوز الردّة الحضارية

يمكن رصد ملامح تلك الردّة الحضارية في أكثر من مستوى. فعلى المستوى الفكري والثقافي تراجع طرح الإشكاليات والقضايا الكبرى التي كانت إلى منتصف ستينيات القرن العشرين محاور أساسية في المجال العمومي لصالح مسائل ثانوية هامشية استنزفت الجهد والطاقات دون فائدة تُذكر مثل إثارة النعرات الجنسية والجهوية والفئوية والعرقية.

وقد كان من نتائج ذلك تراجع المكانة الاعتبارية للمثقفين العضويين لصالح مقاولي الذاكرة والمستثمرين في واقع التشظّي والتجزئة الطائفية. وبالتوازي مع ذلك تردّى الذوق العام، واختفت أو كادت الأعمال الفنية والإبداعية الكبرى التي تسعى إلى تربية الإنسان على قيم المشترك القومي والإنساني وتهذيب الأنماط السلوكية والاجتماعية.

المرحلة التاريخية الراهنة مرحلة حاسمة من التاريخ العربي والإنساني عمومًا

أمّا على المستوى السياسي، فلئن تراجعت السرديات الكبرى المتعلّقة بالوطنية والوحدة والمصير المشترك، فإنّ ذلك التراجع بدل أن يساعد على صياغة استراتيجيات كبرى للعمل السياسي وتحديثه وعقلنته بالانطلاق من مشروع الدولة الوطنية بصفته قاطرة ونواة أساسية نحو اندماج وتكامل عربيين أكبر وأوسع، فإنّه أعاد إنتاج شعارات ما قبل الدولة الوطنية والقومية. وهو ما أسفر عن تشوّهات جديدة عمّقت أزمات العمل السياسي وعمّمته مثلما تشهد بذلك نسب الإقبال الضعيفة على الانتخابات في عديد الدول العربية، وترهّل العمل الحزبي والارتداد عن فكرة الحداثة والديمقراطية.

لئن تعدّدت أشكال تلك الردّة وتجلّياتها، فإنّ الحاجة ماسّة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى تطويقها وتجاوزها لأنّ المرحلة التاريخية الراهنة مرحلة حاسمة من التاريخ العربي والإنساني عمومًا. إذ يبدو أنّنا في مرحلة جديدة من التحوّلات الحضارية الكبرى، وإمكانية بروز قوى دولية جديدة. ولا جدال في استحالة أن يتمّ تجاوز تلك الردّة دون مباشرة عملية تصحيح ذاتي تراجع بمقتضاها مختلف التجارب العربية والاستفادة من الأخطاء التي أوصلت العالم العربي إلى وضعية "الانسداد التاريخي". وهو ما يترتّب عنه تكريس ثقافة الاعتراف، ليس فقط الاعتراف بقيمة الإنسان الفردية وبحقوقه الأساسية والاقتصادية، وإنّما كذلك الإقرار بإخفاقات السياسات المنتهجة في تدبير الشأن العام ونوعية العلاقة مع الآخر.

يتنزّل في هذا السياق النفاذ إلى المبدأ أو الروح أو الجوهر المحرّك للتحوّلات الحضارية الكبرى ضمن الشروط الممكنة لتصحيح مسار الحضارة العربية الإسلامية نحو آفاق أرحب. ولا شكّ أنّ ذلك الجوهر يتألّف من مكوّنين متكاملين بقدر ما ينطلقان من الذات المتحرّرة من إكراهات الماضي والحاضر، فإنّهما ينتهيان في رهان الإبداع الحضاري وبناء المستقبل. وهو ما يدفع إلى صياغة أنموذج حضاري بديل يقطع مع تقليد النماذج الجاهزة لا سيما الأنموذج الغربي، وينسجم مع خصوصيات المجال التداولي العربي الإسلامي.

قد يرى بعضهم في هذا التصوّر ضربًا من ضروب الطوباوية الحالمة المعاكسة لحركة التاريخ، لكن تأمّل العديد من التجارب الحضارية الناجحة التي عرفها التاريخ الإنساني، يُثبت استحالة التطوّر وتحقيق الرهانات الكبرى دون المحافظة على خيط ناظم يصل الذاتية بالغيرية مع التأكيد على الخصوصية الثقافية.

لقد عزّزت النجاحات التي حقّقها بعض الأفراد العرب المهاجرين بالغرب في إثبات القدرة على الخروج من الدوامة التي تدور في فلكها الثقافة العربية الإسلامية منذ قرون الجمود والركود. فعندما تتوفّر مجموعة من العوامل السوسيوثقافية والسياسية المتّصلة بدولة المواطنة والقوانين والمؤسّسات يستطيع الفرد العربي الوصول إلى أعلى مراتب التفوّق العلمي والاجتماعي في أكثر الدول الغربية تقدّمًا. تشهد على ذلك تتويجات بعض المتفوّقين من أصول عربية بجوائز "نوبل" مثل أحمد زوريل ومنجي الباوندي وغيرهما في أشدّ العلوم دقّة.

يمكن تطويع العولمة لخدمة المشروع الحضاري العربي الجديد إذا ما تمّ اعتماد استراتيجيات حقيقية

إنّ مقولة الاستثناء الحضاري، التي بموجبها يُنظر إلى الوضعية الحضارية العربية الراهنة بصفتها إفرازًا حتميًا لطبيعة الدائرة الثقافية العربية الإسلامية، تظلّ مقولة نسبية بل عدمية تضليلية تستهدف تأبيد حالة الارتداد الحضاري للمحافظة على التوازنات الجيواسترتيجية القائمة.

ولئن لا يمكن التقليل من شأن التحدّيات التي يواجهها العالم العربي على الصعيدين الداخلي والخارجي ممّا يتسبّب في تشتيت الجهود واستنزاف الطاقات، فإنّ أهميّة تجاوز حالة الارتداد أو النكوص الحضاري تظلّ ممكنة في صورة إعادة ترتيب الأولويات والتفطّن إلى أهمّية العامل الفكري والثقافي في خلق تحوّلات حضارية كبرى واستحالة تنمية الثروة المادية دون ثورة فكرية. وقد وفّر التطوّر التكنولوجي والمعلوماتي والاتّصالي فرص اختصار المراحل وإمكانيات تأثير أكبر. فالعولمة في حقيقتها سلاح ذو حدّين، وليست شرًّا محضًا، إذ يمكن تطويعها لخدمة المشروع الحضاري العربي الجديد إذا ما تمّ اعتماد استراتيجيات حقيقية والشروع في خطوات عملية فعلية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن