ثقافة

ليست مجرّد مباريات في كرة القدم

"ليست مجرّد مباريات في كرة القدمّ"، هذه لازمة متداولة في أغلب بقاع العالم، لكن الأمر مختلف هنا في المنطقة العربية عند نسبة معيّنة من الأقلام البحثية، كما عاينا ذلك في العديد من المحطات، قارية كانت أو دولية. ومن بوسعه أن ينسى تفاعل هذه النسبة بالذات مع مشاركة منتخبات بعض الدول العربية في مونديال كرة القدم الذي نُظّم العام الماضي بدولة عربية للمفارقة، وليس في دولة خارج المنطقة، حيث تفرّعت تفاعلات هذه النسبة بين الصمت عن الإدلاء بأي رأي في الموضوع، أو وصف الشارع العربي الذي خرج للاحتفال ببعض الإنجازات بأنّه من طينة "الرعاع" [كذا] وقراءات اختزالية من هذه الطينة.

ليست مجرّد مباريات في كرة القدم

ما جرى خلال الأسابيع الماضية مع مشاركة مجموعة من الدول العربية في نهائيات كأس آسيا أو كأس أفريقيا لكرة القدم، يزكّي اللازمة أعلاه، بدليل تأمّل تفاعل الجماهير العربية مع نتائج مشاركة مُجمل المنتخبات العربية. بل وصل الأمر إلى تداعيات سلبية للتفاعلات نفسها، مقارنة مع كم نوعي ودال جدًا للتفاعلات الإيجابية، وهي التي تهمّنا هنا أكثر في هذا السياق.

نبدأ بنقطة سلبية عنوانها نشر أشرطة مرئية تهمّ نسبة ضئيلة على الأرجح، من الجمهور الجزائري، تعلن عن الفرحة بعد تأكّد إقصاء المنتخب المغربي في نهائيات كأس أفريقيا، في ما اعتُبر حدثًا غريبًا ومؤسفًا بالنسبة للرأي العام المغربي، وإن كانت نسبة من الرأي العام المغربي، أعربت عن سعادتها أيضًا بعد تأكد إقصاد المنتخب الجزائري، وقبله المنتخب التونسي، وبعده المنتخب المصري، لكن الفارق هنا لم يصل إلى الخروج للشارع كما جرى مع النموذج أعلاه.

نعاين رؤى ومواقف تصُبّ في إخماد الصراعات والخلافات والانتصار للقواسم التي تجمع شعوب المنطقة 

من باب التقزيم أو التقليل من آثار الدهشة، يجب التذكير بأنّ مرد تلك الفرحة عند هذه الجماهير الكروية، رياضيٌ صرف، لأنّه مرتبطٌ بتفادي لقاء هذه المنتخبات فيما بينها، لأنّ الأصل هنا لا يخرج عن تأييد الشارع العربي لجميع المنتخبات العربية المشاركة في هذه النهائيات، على غرار ما عاينا مع مساندة المنتخبات العربية في مونديال السنة الماضية، لكن التأييد يتوقف نسبيًا مؤقتًا عندما يصل الأمر إلى توقع مباريات بين المنتخبات العربية في ما بينها، وبالتالي يبقى هذا التباين في المواقف مسألةً طبيعيةً ولا يحتمل القراءات المغرضة، باستثناء حالات يصل فيها إلى ما يُشبه التطرّف في الاحتفاء، كما جرى مع النموذج السلبي الذي استشهدنا به هنا.

في سياق قراءة أسباب هذا التفاعل غير السوي، لا يوجد أفضل من قراءة أهل النظر الثاقب، والنموذج هنا ما تضمّنه أحدث أعمال عبد الله العروي، صاحب "المفاهيم"، والحديث عن كتابه الصادر السنة الماضية تحت عنوان "أوراق كوفيد"، حيث اعتبر أنّ مثل هذه المواقف لا علاقة لها بالشعب الجزائري الذي نعرفه، كأنّ هذا الأخير خضع لتحويل قسري، داعيًا إلى الكشف عن مضمون المقرّرات الدراسية والثقافة الرائجة ومواعظ ودروس ما بعد استقلال الجزائر.

في انتظار الاشتغال البحثي على هذه التفاصيل النظرية الدقيقة، وتقاطعًا مع ما ذهب إليه العروي في قراءته النقدية هذه، مهمٌ جدًا التنويه بما صدر عن وزير الاتصال الجزائري محمد لعقاب، والذي لم يتردّد في توجيه النقد العلني والصريح إلى الإعلام الرياضي الجزائري، واصفًا إيّاه بـ"الرديء"، مشدّدًا على أنّه "ارتكب تجاوزات أضحت تهدّد الأمن القومي للبلاد"، مستدلًا بالجدل الذي رافق خبر تكلف الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم بمصاريف المنتخب الموريتاني في كأس أمم أفريقيا، قبل أن يتضح أنّ الخبر لا أساس له من الصحة، والأمر نفسه مع لائحة عريضة من الأخبار الزائفة، بما يُفسّر صدور التصريح النقدي للمسؤول الإعلامي الأول.

الشاهد هنا أنّه حتى مع بعض الإشارات السلبية التي صاحبت مشاركة المنتخبات العربية في نهائيات كؤوس قارية لكرة القدم، نعاين ما يُشبه مضادات خطاب الفتنة، وبالتالي صدور رؤى ومواقف تصُبّ في إخماد الصراعات والخلافات، والانتصار بشكل أو بآخر للقواسم التي تجمع شعوب المنطقة على الأقل، أكثر من الفوارق القائمة.

لائحة عريضة من أسباب الهزيمة تتجاوز الشق الرياضي الصرف لأنّها تهمّ الشق السياسي والاقتصادي

في باب القواسم والفوارق أيضًا، وأخذًا بعين الاعتبار هزيمة جميع المنتخبات العربية في نهائيات كأس أفريقيا، أي مصر وتونس والجزائر وموريتانيا وأخيرًا المغرب، مهمٌ جدًا كذلك الاشتغال على مجمل القواسم المشتركة في أسباب هذه الهزائم، ونزعم أنّه من شأن هذا الاشتغال، تأكيد قاعدة "ليست مجرّد مباريات في كرة القدم".

قرأنا العديد من التفاعلات النقدية التي تحاول تفسير إقصاء المنتخب المصري من النهائيات، بما في ذلك ما صدر عن أهل الاختصاص الرياضي، أو ما صدر عن باحثين مشهود لهم بحدّ أدنى من الجدة، ويتضح أنّه ثمة لائحة عريضة من الأسباب، تتجاوز الشق الرياضي الصرف، لأنّها تهمّ الشق السياسي والاقتصادي ضمن أسباب أخرى.

ونزعم أنّ الأمر ينطبق بشكل أو بآخر - حتى لو كان التطابق نسبيًا - على الأسباب المرتبطة بخسارة باقي الدول العربية المشاركة في نهائيات كأس أفريقيا.

إنّها ليست مجرّد مباريات في كرة القدم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن