وجهات نظر

أزمة المياه في البلاد العربية والمخاطر السياسية

تُعتبر أزمة الماء في البلاد العربية، من منظور العلوم السياسية، من أعقد القضايا التّي تتشابك فيها المشكلات السياسية والجيوستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية. وتحليل هذه القضايا يتطلّب شرط الفهم النّقدي لواقع ومستويات تأثيرات السيّاسات المائية على العلاقات بين الدّول العربيّة، أولًا، وبينها وبين دوّل الجوار ثانيًا، خاصة في مناطق النّزاع والمناطق ذات الموارد المائية المحدودة؛ دون إغفال تأثيرات هذه القضايا داخل المجتمعات العربية.

أزمة المياه في البلاد العربية والمخاطر السياسية

ويحيلنا النّزاع بين مصر والسودان وإثيوبيا، فيما يتعلّق بسدّ النّهضة الإثيوبي، إلى بوادر توتّرات جيوسياسية كبيرة لم يُحدّد إلى غاية السّاعة، علميًا وسياسيًا، حجم النتائج والأضرار العميقة على صعيد التوازنات السياسية بين دول المنطقة وآفاقها الأمنية. وهذا ما جعل وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، يصرّح في ندوة صحفيّة أنّ معطى ندرة المياه وتعاظم شبح التصحّر، سيفجّر صراعًا حول الماء بين الثّلاثي مصر وإثيوبيا والسودان وستكون له في السّنين القادمة نتائج مدمّرة لعلاقات هذه الدّول يُدخلها في صراع مسلّح غير محدود طالما الأزمة مستمرّة. وهذا، حسب تصريحه، يخدم المصلحة الجيوستراتيجية والعسكرية لإسرائيل واستراتيجياتها على المستوى المتوسّط في المنطقة.

تستغل إسرائيل النّدرة لإسقاط العرب في تَناحُرات قد تأتي على ما تبقّى من أحاسيس الوحدة وطموح التّكامل والتعاون 

لذلك نلحظ أنّ إسرائيل، تعضيدًا لمشروعها الاحتلالي وطموحها التوسّعي، استندت على نهج سياسة مائية تُؤمّن فيها لنفسها اكتفاءً مائيًا لسنين على حساب الدّول المجاورة لها. وذلك، ليس بسيطرتها على نهر الأردن فقط، ولكن بتوظيفها لتكنولوجيا متطوّرة لسفّ المياه وسرقتها من منابع جوفية تبعد عنها مئات الكيلومترات. كما تقوم سياستها على استغلال النّدرة كسلاح ثانٍ لإضعاف العرب وإسقاطهم في تَناحُرات بَيْنيّة قد تأتي على آخر ما تبقّى فيهم من أحاسيس الوحدة وطموح التّكامل والتعاون العربيين. غير أنّ ثورة "طوفان الأقصى" أوقعتها في فخّ بيئي قد يؤثّر على جانب كبير من سياستها المائية؛ ممثّلًا في ضخّها مياه البحر إلى شبكة الأنفاق في غزّة، وهذا قد يّؤدي حسب تقارير علمية لم تكترث بها إسرائيل إلى تلوّث المياه الجوفيّة بالملح، وبالتّالي تضرّر مصادر المياه الرّئيسية ليس لسكّان القطاع فقط، بل لسكانها أيضًا في الأراضي المحتلّة، لأنّ التلوّث بالملح له قدرة امتدادية تطال المياه الجوفية التّي تبعد عنه بكيلومترات بعيدة، بحسب كيفيات الضخّ وكمّياته.

وحيث إنّ منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتوي على 6% من سكّان العالم وأقلّ من 2% من المياه المتجدّدة، فضلًا عن معدّلات استهلاك مرتفعة للمياه لدى الفرد، في ظلّ تحدّيات بيئية ومناخية، فإنّ هذه المنطقة التّي تُعدّ أكثر جفافًا في العالم، ستدخل في السنوات العشر القادمة، حسب تقرير الجمعية الأمريكية لأعمال المياه، في أزمة جفاف تاريخية غير مسبوقة تُقدّر بزيادة التصحّر بنسبة 40% وإصابة مياهها بالشحّ إلى 1% من المياه المتجدّدة، وهذا يعني أنّ المنطقة بأكملها ستشهد تحوّلات جيوسياسية وثورات داخلية قد تعيد خلط أوراق نظم الحكم فيها، لأنّ آثار الجفاف وشحّ المياه سيؤثّران على النمط المعيشي للمجتمعات التي قد يُنزلها إلى درك المجاعة وانتشار الأوبئة والمجاعات، ومن ثمة خروجها إلى العصيان والتمرّد.

أزمة الماء قبل أن تكون بيئية ومناخية هي سياسية وإيديولوجية

لا يكفي بالنسبة للبلاد العربيّة أن تتبنّى سياسة مائية وقائية لضمان أمن مائي وتحقيق تنمية مستدامة، وإنّما رهانها الأكبر أن تُسارع في بناء مواقف استراتيجية مُوحّدة وحاسمة تجاه إسرائيل، قائمة على منظومة سياسية متكاملة ورُؤى استراتيجية نافذة، أساسها الوعي بأنّ أزمة الماء قبل أن تكون بيئية ومناخية، فهي سياسية وإيديولوجية، باعتبار إسرائيل تراهن عليها بقوّة لإنجاز مشروعها التوسّعي في المنطقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن