اقتصاد ومال

"الاستثمار الأجنبي المباشر".. في ظل تداعي واضطراب الجنيه

عندما بدأ الرئيس المصري تطبيق البرنامج الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي في خريف عام 2016، تم تخفيض سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار والعملات الحرة الرئيسية بنسبة 50%، وأطلقت الحكومة على ذلك التخفيض "تعويم" الجنيه، وهو ليس كذلك، فالتعويم الكلي يحدث مرة واحدة ويعني قابلية العملة للتحويل في العمليات الجارية والرأسمالية وحرية التداول في الداخل والخارج.

في خريف عام 2022 وبداية عام 2023 تم تخفيض سعر الصرف الرسمي للجنيه بنسبة 50% مرة أخرى. ولم يعد النقد الأجنبي متوفرًا من خلال القنوات الرسمية والقانونية، وبالتالي عادت السوق السوداء للنقد الأجنبي وانخفض سعر صرف الجنيه المصري فيها منذ خريف عام 2022 وحتى الآن بنسبة 80%، وعاد تخزين القيمة بصورة غير منتجة في صورة ذهب ودولارات وعقارات مغلقة بلا استخدام.

الاضطراب في سعر صرف العملة المحلية يدمّر الحسابات المستقبلية التي يقوم عليها الاستثمار المحلي والأجنبي

يُعتبر الانخفاض الهائل والمتتابع في سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، اضطرابًا وانهيارًا صريحًا للعملة المصرية التي تعاني الأمرّين بسبب العجز الضخم في الميزان التجاري وفي ميزان دخل الاستثمار وفي ميزان الحساب الجاري. ولا يفرّق البعض بين تخفيض سعر الصرف لتحقيق أهداف اقتصادية مع العمل على ثباته تقريبًا لأجل طويل عند المستوى الذي تم تخفيضه إليه لضمان استقرار الحسابات المستقبلية للمستثمرين المحليين والأجانب (النموذج الصيني)، وبين الانخفاضات الضخمة المتتالية التي تدمّر تلك الحسابات وتشلّ أي استثمارات في القطاعات غير النفطية.

وتلك السياسة النقدية إذا جاز تسميتها سياسة أصلًا، تُعدّ التحوّل الأكثر أهمية في السياسات النقدية في عهد الرئيس السيسي. وحسب توقعات الحكومة وصندوق النقد الدولي، فإنها كان من المفروض أن تؤدي إلى زيادة ضخمة في تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى مصر لأنّ ذلك التخفيض الهائل لسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار يعني للمستثمرين الأجانب زيادة القدرات الشرائية لأموالهم بالعملات الأجنبية الحرّة في السوق المصرية.

لكن الاضطراب والانهيارات المتتالية في سعر صرف العملة المحلية يبدد تلك الآثار المنطقية لأنه يدمّر الحسابات المستقبلية التي يقوم عليها الاستثمار المحلي والأجنبي على حد سواء.

كيف يخسر المستثمر الأجنبي من اضطراب وانهيار الجنيه؟

لو أدخل مستثمر أجنبي 100 مليون دولار على سبيل المثال، وفقًا لسعر الصرف البالغ 15 جنيه لكل دولار قبل عامين فإنها كانت تساوي 1500 مليون جنيه مصري، وبافتراض أنها ربحت 20% سنويًا، فإنها أصبحت مع أرباحها نحو 2160 مليون جنيه حاليًا، ومع انهيار سعر صرف العملة المحلية فإنها أصبحت تعادل نحو 69 مليون دولار فقط وفقًا للسعر الرسمي ونحو 30 مليون دولار وفقًا لسعر السوق السوداءـ فلماذا يخاطر المستثمر الأجنبي بأمواله في سوق عملته مضطربة بصورة مدمّرة للحسابات المستقبلية وللقيمة الدولارية لاستثماراته؟! وأضف إلى ذلك صعوبة الحصول على الدولارات لتحويل الأرباح وللتخارج من السوق إذا أراد.

سيطرة شركات الأجهزة غير المدنية على الاقتصاد غير مطمئن للمستثمرين بشأن إمكانية أن يحظوا بالمساواة أمام القانون

والحقيقة أنّ تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة تُعدّ تجسيدًا عمليًا لنظرة الرأسمالية العالمية للسوق المصرية بناءً على سلة الحوافز المالية والنقدية والاقتصادية الكلية، وحجم السوق وسهولة إجراءات دخولها والتخارج منها وتحويل الأموال إليها والأرباح منها، وقوة العمل ومستوى مهاراتها وأجورها، ومستوى استقرار سعر الصرف وما يتيحه من إمكانية بناء توقعات مستقبلية تتحرك بناءً عليها أي استثمارات، إضافة إلى صورة الاستقرار الأمني والسياسي والتشريعي والمساواة الحقيقية بين الجميع أمام القانون، والموقع الجغرافي وميزاته الاقتصادية، ومستوى الانفتاح الاقتصادي على العالم وما يتيحه من سهولة في حركة البضائع والأموال وغيرها من العوامل التفصيلية.

ومع اضطراب سعر الصرف وسيطرة شركات الأجهزة غير المدنية على الاقتصاد بكل جبروت سلطاتها التنفيذية، فإنّ ذلك غير مطمئن للمستثمرين الأجانب والمحليين بشأن سلامة حساباتهم المستقبلية وإمكانية أن يحظوا بالمساواة أمام القانون، بما يؤدي لتحجيم الاستثمارات المحلية والأجنبية.

الاستثمارات الأجنبية الحقيقية والزائفة والعجز في ميزان دخل الاستثمار

تأتي الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتشارك في دورة النمو الاقتصادي المحلي وتستفيد وتفيد الدول المتلقية لها التي تكون في حاجة لتحديث اقتصادها تقنيًا وخلق فرص للعمل من خلال دفقة استثمارية أكبر من قدراتها على التمويل.

ويحاول بعض الدول استقطاب أي استثمارات أجنبية بصورة عشوائية دون النظر لخريطة الاحتياجات الضرورية لتنمية الاقتصاد وتطويره تقنيًا والإحلال محل الواردات وخلق الوظائف وزيادة الصادرات وتحسين الميزان التجاري والأرصدة المحلية من العملات الأجنبية.

كما أنّ البعض منها، مثل مصر، تشكل الاستثمارات الأجنبية الزائفة فيه جزءًا كبيرًا وأحيانًا القسم الأكبر مما تحسبه استثمارات أجنبية مباشرة، وتلك الاستثمارات هي قيمة عمليات الاستحواذ على أصول إنتاجية وخدمية محلية عامة وخاصة قائمة وتعمل فعليًا، دون إضافة أي أصول إنتاجية جديدة.

ونتيجة اعتماد السلطة الراهنة على أسوأ سياسات عصر مبارك وهي سياسة بيع الشركات والأراضي والعقارات العامة من خلال ما أعلنته عبر وثيقة "سياسة ملكية الدولة"، ومن خلال الصندوق السيادي الذي يتحكّم الرئيس في إدارته، فإنّ قسمًا كبيرًا من تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر هو استثمارات زائفة لا تضيف أي طاقة إنتاجية جديدة للاقتصاد.

وتشير البيانات الرسمية إلى أنّ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر قد بلغ 6380 مليون دولار عام 2014/2015، وارتفع إلى 6933 مليون دولار في العام 2015/2016. ووفقًا لتقرير الاستثمار العالمي، بلغ صافي تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر خلال السنوات الست من عام 2017 حتى عام 2022 نحو 46,9 مليار دولار، مقارنةً بنحو 126,8 مليار دولار تدفقت إلى إندونيسيا، ونحو 357 مليار دولار تدفقت للبرازيل، ونحو 65,8 مليار دولار تدفقت لجنوب إفريقيا، ونحو 95 مليار دولار تدفقت لفيتنام، ونحو 601,8 مليار دولار تدفقت لسنغافورة، ونحو 291 مليار دولار تدفقت للهند.

وحتى تلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تدفقت لمصر في الفترة المذكورة والأقل من الدول محل المقارنة، تتركز في قطاعي النفط والغاز الأوليين، كما أنها في جانب كبير منها استثمارات أجنبية مباشرة زائفة عبارة عن حصيلة بيع الأصول العامة للأجانب وبخاصة للسعودية والإمارات، وهي مجرد عمليات استحواذ أجنبية على أصول قائمة ومنتجة فعليًا، وهذا الاستحواذ الذي يسلب جزءًا من الملكيات العامة لصالح الأجانب، سوف يترتب عليه نزيف دائم للعملات الأجنبية من الداخل إلى الخارج لتحويل أرباح الأصول التي تم بيعها للأجانب، يعني بلاءً جديدًا وطويل الأجل!

ولإدراك فداحة هذا الأمر يكفي أن نعلم أنّ العجز في ميزان دخل الاستثمار بلغ نحو -17318 مليون دولار عام 2022/2023، مقارنة بنحو -15763 مليون دولار عام 2021/2022، ونحو -5701 مليون دولار عام 2014/2015 وهو العام الأول لحكم الرئيس السيسي.

والاستثمارات الأجنبية المباشرة الحقيقية أي التي تنشئ الأصول الجديدة ما زالت محدودة نتيجة استمرار المعوقات السياسية والاقتصادية والبيروقراطية للاستثمار المحلي والأجنبي، وأضف إلى ذلك التمييز الضريبي الذي تتمتع به شركات جهاز الخدمة الوطنية والعقارات التابعة للقوات المسلحة، والأراضي المجانية التي تخصص لجهاز أراضي القوات المسلحة للاستثمار المدني، بما يمنحها ميزة غير عادلة على كل الشركات الخاصة والعامة المدنية المحلية والأجنبية العاملة في السوق المصرية.

كما أنّ القانون 182 لعام 2018 الخاص بالتعاقدات العامة، يفتح بوابات الإسناد المباشر على مصراعيها الذي يذهب غالبًا للشركات التابعة لأجهزة الدولة التي ليس من دورها أن تقوم بأي نشاط اقتصادي أصلًا، فالبراح الاقتصادي المدني ينبغي أن يُترك كليًا للشركات العامة المدنية والشركات الخاصة والعائلية والتعاونية، وإذا تم الاستحواذ عليه من شركات أجهزة الدولة، فإنّ القطاع الخاص المحلي والأجنبي الذي سيضطر للعمل من الباطن بأرباح أقل وبتحكم ممن حصلوا على التعاقدات العامة الأصلية، سيفضل غالبًا حجب استثماراته أو يهاجر للخارج بدلًا من جذب استثمارات أجنبية للداخل!

الإجراءات المطلوبة لاستنهاض الاستثمارات المحلية والأجنبية

الخلاصة أنّ الحكم في مصر خفض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الحرّة الرئيسية، وأوصله لحالة اضطراب وانهيار دون أن يحصد الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تنشئ أصولًا إنتاجية وخدمية جديدة، لأنّ التخفيض ثم الاستقرار النقدي شيء، والتخبط والاضطراب والتخفيضات المتتالية شيء آخر منفر للاستثمارات المباشرة الحقيقية وليس جاذبًا لها، ويمكنه فقط جذب أموال ساخنة في صورة استثمارات غير مباشرة ولحظية تثير الاضطراب في سوق الأوراق المالية.

يجب تعديل قانون الضرائب لإنهاء الإعفاء الضريبي غير العادل الذي تتمتع به شركات الجيش دون غيرها

وحتى يمكن تحقيق زيادة كبيرة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنّ على الدولة أن تحقق الاستقرار النسبي طويل الأجل للعملة المحلية، وعليها أيضًا أن تدعو السلطة التشريعية لإلغاء قانون ديمومة حراسة الجيش للمنشآت العامة المدنية حتى تشيع في العالم صورة آمنة لمصر، وأن توقف استهداف المعارضة السياسية السلمية وتعدل قانون تنظيم التظاهر غير الديموقراطي، وأن تركز حوافزها للمستثمرين المحليين والأجانب على قطاع الصناعة التحويلية الذي ينتج بدائل للواردات وسلع قابلة للتصدير لتحسين الميزان التجاري ورفع أرصدة العملات الأجنبية لدى مصر، وأن تدعو مجلس النواب لتعديل قانون الضرائب لإنهاء الإعفاء الضريبي غير العادل الذي تتمتع به شركات الجيش دون غيرها مما يجعلها قادرة على الفوز بأي مناقصة عامة في الاقتصاد المدني ويخلق رأسمالية بيروقراطية عسكرية مهيمنة على ضوء التمدد الكبير لتلك الشركات في الاقتصاد المدني.

 كما أنّ هناك ضرورة لإلغاء القانون 32 لعام 2014 الذي يحمي الفساد المحتمل في التعاقدات العامة، وكذلك القانون 182 لعام 2018 الذي يفتح باب الإسناد المباشر للأعمال العامة بلا ضوابط حقيقية، وهي بوابة جهنم للفساد وتبديد المال العام، ويمكن العودة للقانون القديم 89 لعام 1998، كما أنّ القانون الحالي يقدّم رسالة للمستثمرين الأجانب أنهم لا يمكن أن يحصلوا على عمليات للمقاولات العامة إلا من الباطن من الجهات التي تحصل على تلك العمليات بالإسناد المباشر أو باستغلال الإعفاء الضريبي غير العادل الذي تتمتع به.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن