اقتصاد ومال

هل من سبيل لإصلاح زراعي في الوطن العربي؟

محمد زاوي

المشاركة

تُعتبر الزراعة من أهم الأنشطة الاقتصادية في الوطن العربي، خاصّة في تلك الدول السهلية المترامية الأراضي، والتي عُرِفت بتقاليد زراعية قديمة قامت على أساس أنماط من الإنتاج والتبادل. ومن أبرز الدول العربية الزراعية نجد: سوريا، ومصر، والعراق، واليمن، والسودان، والمغرب. وقد ساهم المناخ الخاص بهذه البلدان وطبيعة تضاريسها، بالإضافة إلى أشكال ملكية الأرض فيها ونوع التجارات والحرف المنتشرة في مدنها؛ ساهم كل ذلك بشكل كبير في الحفاظ على زراعيّتها إلى أن تدخّل الاستعمار.

هل من سبيل لإصلاح زراعي في الوطن العربي؟

لم تكن لهذا الاستعمار رغبة، من جهة أولى، في تحويل الزراعة العربية التقليدية إلى زراعة حديثة. ومن جهة ثانية، لم يكن ليذرها على ما هي عليه فيُحرَم فائضَ قيمتها. والحلّ الذي اتخذه للخروج من هذه المعادلة المعقدة هو تطوير جزء من هذه الزراعة تحت تصرّفه، وإبقاء الجزء الآخر على ما هو عليه. وكان نتيجة لذلك، أن يتعايش على الأرض نفسها، نمطان من الإنتاج، بورجوازي زراعي حديث، و"إقطاعي" قديم ("قايدي" في الحالة المغربية، إذا اعتمدنا وصف الأنثروبولوجي الفرنسي/ المغربي بول باسكون).

خرج الاستعمار من دول الوطن العربي ليتركها حبيسة عدد من المشاكل الزراعية 

وهنا استفاد الاستعمار من جهتين: بتحقيق التراكم الأولي للرأسمال ونهب فائض القيمة الزراعي، ثم باستدامة التفاوت الداخلي على مستوى أنماط الإنتاج.

تحقّقت الاستفادة الأولى بفك الارتباط بين الفلاح وأرضه، بوسائل قسرية وقهرية، من السجن والطرد والتشريد إلى التشريع العقاري لفائدة الرأسمال الزراعي الأجنبي.

أما الاستفادة الثانية، فتحقّقت عن طريق إغراء العملاء والمتعاونين بجزء من الملكية يحافظون فيها على النمط التقليدي للإنتاج. في التجربة التونسية نموذج لهذا التدخل الاستعماري (راجع كتاب "تسرّب الرأسمالية إلى تونس في عهد الحماية" لمؤلّفه رضا الزواري)، وفي التجربة المغربية أيضًا (راجع كتاب "الدولة المغربية: قضايا نظرية" لمؤلّفه عبد السلام الموذن).

خرج الاستعمار من دول الوطن العربي ليتركها حبيسة عدد من المشاكل الزراعية، لا تسعى إلى تجاوزها إلّا في شرط تبعية اقتصادية موضوعية. فلم تكن دول الاستقلال لتتدخل في عملية الإصلاح الزراعي إلّا بما يسمح به "التقسيم الدولي للعمل"، وتوضيح ذلك كما يلي، مع الاقتصار هنا على ثلاث مشاكل ضمن مشاكل أخرى:

في مسألة الملكية

يَفترض الإصلاح الزراعي إعادة توزيع الملكية بما يسمح بتطويرها زراعيًا لمصلحة الدولة، ودون احتكارها لمصلحة الرأسمال الخاص، ودون الإبقاء على ملكيات صغرى طفيلية تفتقر إلى التوجيه الاقتصادي والمؤهلات الزراعية الحديثة. من خلال هذه العملية تصبح الملكية الزراعية الخاصة خاضعة للملكية العامة، ما يحول دون احتكارها رأسماليًا (من قبل الرأسمال الخاص)، ودون انفصالها عن مشروع الدولة في التحديد والتنمية والخروج من حالة التبعية.

لم يحصل هذا في الوطن العربي، أو حصل جزئيًا هنا وهناك؛ فماذا كانت النتيجة؟ زراعة ذات تنافسية ضعيفة، قواها الإنتاجية متخلّفة، تصنيعها منحسر، تنافسيّتها الدولية ضعيفة في مجملها. كانت هناك مجهودات عربية للتنمية والخروج من التبعية الزراعية في هذه الدولة أو تلك، لكن الشروط الاقتصادية الدولية (المؤسّسات الدائنة تحديدًا) حالت دون تحرير الملكية لفائدة الدولة في بعض التجارب (مصر مثلًا)، كما أوقف الاستهداف الأجنبي المباشر تجاربَ أخرى (العراق مثلًا).

في مشكلة المياه

عمل الاستعمار الأجنبي بشكل كبير على استنزاف المياه الجوفية والسطحية في الوطن العربي، إذ أهّله تقدّمه التكنولوجي والزراعي لوضع يده على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ونهب أحجام ضخمة من المياه العربية.

ولن نبالغ إذا قلنا بأن جزءًا كبيرًا من مشكلة المياه في الوطن العربي تسبّب فيه الاستعمار، وقد بذل وسعه الاستعماري في استنزافها دون توريث بدائل لتجاوزها. وهنا يجب الحديث لا عن مساحة الزراعة فحسب، بل عن نوع الزراعات الاستعمارية أيضًا، كذا الاستثمارات الزراعية الأجنبية التي دخلت الوطن العربي من باب التبعية (بعد الاستقلال).

ولم يكتفِ الاستعمار بكل هذا، بل سعى أيضًا إلى محاصرة الوطن العربي في نسخة استعمارية جديدة (مشكلة المياه بين الكيان الصهيوني والأردن، أزمة مياه النيل بين مصر وإثيوبيا)، وفي شرط مناخي متسم بالجفاف وقلّة التساقطات المطرية.

في تأخر وسائل الإنتاج

عندما نتحدث عن وسائل الإنتاج الزراعية، فنحن نتحدث عن وسائل الزراعة والحصاد ونقل المحاصيل وتخزينها، وتطوير البذور والمبيدات والمواد الكيماوية، ومختبرات البحث والابتكار الزراعي إلخ؛ تشكل هذه الوسائل وغيرها، بالإضافة إلى قوة العمل الزراعية، ما يُسمى في أدبيات الاقتصاد السياسي "قوى الإنتاج الزراعية".

التغيير في الواقع الزراعي العربي يحدث نتيجة شرطَين: فعل إنساني وقابلية تاريخية

تعاني هذه الوسائل، بالإضافة إلى نظائرها في قطاعات اقتصادية أخرى، من تخلّف تكنولوجي يُنتِجه التفاوت التكنولوجي بين "المراكز الرأسمالية" و"أطرافها". يرخي هذا التفاوت بظلاله على الجامعات ومراكز البحث، لأنّ "التقسيم الدولي للتقنية" (تبعًا "للتقسيم الدولي للعمل") لا يسمح بالتقدّم التكنولوجي خارج إطاره المحدّد رأسماليًا.

أليس للتحرّر من هذا الواقع سبيل؟

لكل مشكل من المشاكل أعلاه حلول خاصة حسب كل تجربة، ولا يحتمل التفكير فيها الارتهان إلى الدعوات المثالية المتعالية على واقع الممارسة. التخلّف الزراعي ليس معطى ذاتيًا محضًا، والإصلاح الزراعي ليس مشروعًا من المثل تتحقق بمجرد التخمين فيها. الواقع الزراعي العربي واقعٌ تاريخيٌ، التغيير فيه يحدث نتيجة شرطَين: فعل إنسانيٌ سديدٌ في الزمن، وقابلية تاريخية في العالم والوطن العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن