وزاد سوء حظ جيلنا، وقد وصل قريبًا من نهاية الطريق، إن يعايش رفع لافتات تصف الديمقراطية بـ"الكفر" في مناطق شمال غرب سوريا، التي يسميها البعض المناطق المحرّرة، وفيها حشد واسع مغلوب على أمره ممن كانوا في الصفوف الأولى من ثورة السوريين على نظام الأسد، وبينهم أوائل ممن هتفوا للحرية في مواجهة الدكتاتورية.
وتلخص الوقائع السابقة، أبرز التطورات التي أحاطت بالديمقراطية وما شهدته من تطورات في ثلاثة مفاصل أساسية، الأول فيها يقف عند معنى الديمقراطية ومحتواها وتحوّلاتها في البلدان العربية، والثاني يُمثّل المسار الذي سارت فيه تجارب الديمقراطية العربية في فترة ما بعد الاستقلال وصولًا إلى ما نحن فيه، والثالث يجسّده الأفق المحيط بالمسار الديمقراطي في البلدان العربية واحتمالاته في ضوء الواقع الراهن.
كرّست نتائج الحرب العالمية الثانية (1939-1945) انقسام العالم إلى معسكرين، أولهما معسكر شيوعي يقوده الاتحاد السوفياتي، ويضم الدول الشيوعية ودولًا اشتراكية حليفة، والثاني معسكر رأسمالي تقوده الولايات المتحدة، يضم الدول الرأسمالية ودول حليفة، وبين المعسكرين تشكّلت مجموعة من دول أغلبها آسيو-أفريقية حديثة الاستقلال، تتحرّك في الهامش الفاصل بين المعسكر الرأسمالي الذي خرجت من تحت سيطرته، والمعسكر الشيوعي الذي تخاف الانضمام إليه، فذهبت إلى حركة نوسان بين المعسكرين للحصول على ما يمكن من مكاسب ومزايا يقدّمها كل منهما.
حركات انقلابية تشاركت في ضرب أدوات الديمقراطية في أغلب البلدان العربية
لقد تميّز زمن ما بعد الحرب بصعود فكرة الديمقراطية، فأعطت الدول الرأسمالية في إطار منافسة الأنظمة الشيوعية مزيدًا من الاهتمام ببناء وتعزيز المسارات الديمقراطية ليس في بلدانها فقط، بل في الدول حديثة الاستقلال عبر مساعدتها في توفير الوسائل الأساسية للنظام الديمقراطي، والتي تشمل دستورًا وانتخابات وأحزابًا سياسية ونقابات وصحافة حرّة، وهو ما ذهب إليه أو إلى أغلبه بلدان عربية ومنها سوريا ولبنان والعراق ومصر ولحقتها لاحقًا دول أخرى بينها السودان وتونس والكويت وغيرها، مما كرّس ظاهرة ديمقراطية عربية عميقة الصلة بـ"الديمقراطية الغربية".
غير أنّ رياح تغيير سرعان ما أخذت تضرب النموذج الديمقراطي العربي في حركات انقلابية، بدأت في سوريا عام 1949 وتمدّدت نحو مصر 1952 والعراق 1958، واليمن 1961، والجزائر 1965 وكرّت السبحة في انقلابات لا نهاية لها، وكلها تشاركت في ضرب أدوات الديمقراطية، شاملة تعطيل الدستور وإعلان حالة الطوارئ، وإقالة الحكومات المنتخبة، وحل البرلمانات وحظر الأحزاب السياسية والنقابات وإغلاق الصحف ومصادرة ممتلكاتها، ومنع أي نشاط مستقل في أي مجال كان، وذهب بعضها باتجاه تجميل وجهه القبيح في خلق نوع من الديمقراطية مشتقًا تجربة الديمقراطية الشعبية من الأنظمة الشيوعية، وأجرى عملية توليد مؤسسات "ديمقراطية" برعاية المؤسسة العسكرية - الأمنية وفيها مجالس تمثيلية وتحالف جبهوي يقوده حزب النظام، ونظام استفتاء، وإعلام تعبوي يتبع الدولة، وكلها إجراءات أنتجت بنية حاكمة مفصّلة على قياس حاكم مستبد، لتدعيم وجوده وتبرير أفعاله وجرائمه.
وخارج المسار العملي الذي اتجهت فيه الديمقراطية إلى تجربة مشوّهة وسلبية في أغلب البلدان العربية، كان المسار النظري في موضوع الديمقراطية على المستوى العالمي، يسير نحو أعماق جديدة، ليس فقط نتيجة التفكير والتنظير، وإنما أيضًا في ضوء دراسة التجارب والتطورات في نماذج الغرب الديمقراطي ومنها تجارب سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة الاميركية، وتجارب ديمقراطيات المستعمرات السابقة وفي مقدمتها الهند، وقد عاشت جميعًا حتى أواخر الستينات صعودًا ملموسًا في تجارب، عاش أغلبها فترة استقرار وازدهار، قبل أن يتحوّل بعضها نحو انحدار في تجربته، تبدو مؤشراته ملموسة، بل ومعلنة، وقد عرضت الصحافة ومراكز الأبحاث والجامعات، بل وحكومات فيها على مدار الأعوام الماضية نماذج من سقطات وتراجعات الديمقراطية في بلدانها.
ولا يحتاج الى تأكيد، أنّ التطورات المحيطة بالديمقراطية ومتابعتها في الغرب، عكست مستوى اهتمام طبقات الرأي العام وخاصة المتابعين والمهتمين من أفراد ومؤسسات، وقد انخرطوا في تناولها، وقاموا بإشباعها بحثًا وتدقيقًا واستخلاصات، قادت إلى تطوير نظري وعملي بموضوع الديمقراطية، وإضافة مزيد من الشروحات للمفهوم ووصف وتفصيل أنواع الديمقراطية وخصائص كل منها، وتم تشخيص المشاكل والتحديات التي تواجه الديمقراطية في تلك البلدان وفي العالم.
إنّ النتائج المباشرة لما تم في الغرب من عمل تفصيلي في دراسة الديمقراطية ومحتوياتها على البلدان العربية، كان محدودًا. ليس بسبب تمايز الظروف والتجارب بين بنى وظروف مختلفة فقط، بل بسبب غياب المهتمين العرب من أشخاص ومؤسسات أو محدودية وجودهم في أنشطة البحث والحوار والاستخلاصات، لكن ما سبق لا يمنع من قول، إنّ عربًا من أفراد ومؤسسات لهم اهتمام بالديموقراطية ومتعلقاتها في الواقع العربي، استفادوا من منجزات الاهتمام والاشتغال الغربي بموضوع الديمقراطية وخاصة في العقدين الذين سبقا ثورات الربيع العربي 1990-2010، وقد شهدا نشاطات فكرية - ثقافية شملت مؤتمرات وحوارات وحركة تأليف ونشر حول الموضوع، وبالتوازي معها نشاطات عملية وإجرائية، نجم عنها تشكيل منظمات مدنية وثقافية ومنصات إعلامية وحركات شعبية، عملت كلّها من أجل الديمقراطية، وتبنى أغلبها بصورة واضحة وعلنية الدعوة الى إصلاح الواقع العربي ودفعه نحو التغيير في مسار تحوّل ديمقراطي سلمي، بل إنّ بعض هذه النشاطات والتحرّكات، وجدت صداها متنوع المستويات في بعض الأوساط الرسمية العربية.
المهتمون من العرب يمتلكون كمًا هائلًا من المعارف المتصلة بقدرة الديمقراطية على إخراج الواقع العربي من مشاكله
وفي سياق هذه المساعي كثرت النشاطات المتصلة بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في أغلب البلدان العربية، وصل صداها إلى أعلى المستويات الرسمية العربية، فتمّ تأسيس منظمات حقوقية وإنسانية وإطلاق مراكز بحث، وعقدت منتديات ومؤتمرات، وعقد شراكات محلية وأخرى مع منظمات أجنبية وإقليمية ودولية، وجرى تكثيف الأنشطة السياسية والاجتماعية والثقافية، ونظمت ندوات ولقاءات على المستوى العربي وفي المستويات القطرية، وللدلالة على بعض أهمية خلاصات البحث في موضوع الديمقراطية العربية، يمكن الإشارة إلى صدور عشرات من الكتب والأبحاث عن مركز دراسات الوحدة العربية إضافة الى ما نشرته مجلة المستقبل العربي، وهو مجرد مثال وهناك كثير غيره.
ووسط ما جرى من جهود، تكرّست خلاصات مهمّة تتصل بالديمقراطية في البلدان العربية، الأهم فيها تأكيد ضرورة الديمقراطية، والتوسّع في مفهومها، وتنوّعها، والتدقيق في إمكانياتها في البيئات السياسية والجغرافية المختلفة، ورسم حدود روابطها بالأحزاب والتعددية وتداول السلطة، وفي علاقاتها مع حقوق الإنسان والبيئات الثقافية، وتضمّنت الخلاصات تدقيقًا في معوقات الديمقراطية وموضوعات أخرى، مما يؤكد امتلاك المعنيين والمهتمين من العرب كمًا هائلًا من المعارف والخبرات التي تتصل بالديمقراطية وقدرتها على إخراج الواقع العربي من صعوباته ومشاكله، إذا أرادوا رسم سيناريوهات ومسارات تقود بلادهم على طريقها.
(خاص "عروبة 22")