بصمات

عن الحاجة إلى "الوعي الحضاري"!

بات العالم مخيفًا مِن كثرة الحقد! صار الإنسانُ في كلامِه واصِفًا لمشاهد التفوّق والابتكار فحسب، مذهولًا كل الوقتِ بقوى يمكنها إبادته، رغم أنها مِن صُنعه.

عن الحاجة إلى

يبدأ الوجدان البشري اليوم معرفتَه للعالم مِن لحظةٍ سلبية هي الخوف، لقد بات الفرَحُ الحَذِر هو أقصى شعور بالمتعة مع أي اكتشافٍ أو تصنيع جديد. افتقدت المغامرةُ روحَ التبصُّر واستشراف الهناء، بل أصبحت مدروسة العواقب مؤطَّرة النتائج لخدمة السيطرة الراهنة على العلم والحياة. كيف نتفاعل مع الذكاء الاصطناعي ببراءة مثلًا، ونحن نسمع ونشاهد العلاقة بين هذه التقنية وتطوير الصواريخ والأسلحة الدقيقة والقذائف "الذكيَّة"، هل نفرَح بإمكان الموت المجاني أم بقوةٍ لا يمكن السيطرة عليها إذا لم يحكمها ضميرٌ أخلاقيٌّ يفهمُ الكون دار أمان وائتلافٍ بين البشر وليس مقبرةً كبرى لكل مَن ليس غَرْبيًّا موافقًا على إدارة العالم الرِّبحية الجشعة؟.

الأمم المتحدة لم تعد قادرةً على أداء واجبها الإنساني بسبب التفلُّت القيمي الحاصل مِن الدول الأعضاء الأساسية

كم جميلٌ أن نخفِّفَ من أوهام الاستئثار والمسألة ليست سذاجةً رومنسيةً، بل هي دعوة لعقلنة الحضور العلمي التقني في العالم، إذ لا يمكن أن نتصوَّر اختراع آلات وأسلحةٍ ومأكولات ومشروبات تقتلُ الإنسانَ، ولا تكترث بفنائه، طالما أنها تؤمّن الربح السريع!. كان وعيُنا متفتِّحًا على قيمةٍ أخلاقية إيمانية كبرى تُنسَب للرسول العربي الكريم محمد، هي "لا يؤمن أحدكم حتى يحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"، فلا شيء له قيمة في الحياة إذا سكنَ في جهةٍ دون أخرى مِن هذا العالم.

إنّ لحظةَ الحدَث هي فسحة التجريب الحقيقي للوعي الحضاري الراهن للإنسان، فما أصعب أن ترى القوى المؤثرة في صناعة النظام العالمي تتنازل عن القِيَم استجابةً لغريزة الهيمنة. والهيمنة تفقدُك التصالح مع تاريخك الفكري، وكذلك مع حاضرك المعيش بين الناس، فترهنُ حضورَك بمدى استحواذك على كل مقوّمات الحضور لنفسك فقط.

لم تعد الهيمنة السياسية اليوم تحتاج إلى كبير تخطيطٍ يستلزم الخطاب الأخلاقيَّ المقنِع، الذي يحترم رأي الآخر المتلقي في قبول هذا الخطاب أو رفضه، بل صارت المسألة فرض الخطابِ نفسه بالقوة، واستهزاء بالمؤسسات الدولية القائمة التي تُعنى بالدفاع عن الحق البشري العام.

إنّ مؤسسات الأمم المتحدة لم تعد قادرةً على أداء واجبها الإنساني، وذلك بسبب التفلُّت القيمي الحاصل مِن الدول الأعضاء الأساسية التي تدعم مصالحها فحسب. لقد جاءت فكرة الأمم المتحدة من فلسفة كانط حول السلام العلمي، هذه المثالية التأسيسيَّة لميتافيزيقا الأخلاق، أي للحرية المطلقة وشروطها النظرية والعملية الممكنة. هنا لا بد أن نلتفت إلى التنازل الغربي عن الوعي الحضاري، ففرنسا مثلًا يحاسِبُها العالمُ على لحظةٍ أخلاقية كبرى في حضارتها هي "الثورة الفرنسية"، مع العلم أنّ تاريخها في التعامل مع العالم كلّه لم يشهد تكريسًا لقيم الثورة الفرنسية، بل كانت مستعمِرًا شرسًا في عصر الاستعمار، وها هي اليوم تدعم الكيان اللاشرعي لدولة احتلالٍ مصطنعة على أرض فلسطين، وهي "إسرائيل". ألا يعرفُ الفرنسيُّ في ضميره أنَّ صاحب الأرض والمحتَلَّ لا يتساويان في الحقوق؟! ألا يعرفون أن المحتلَّ لا حقَّ له في أرض غيره، ويجب إيقاف الدعم عنه هو بدل إيقاف دعم منظمة "الأونروا"؟!

تُرى، لماذا لا نرى العقل السياسي الغربي اليوم منسجمًا مع طروحاته الفلسفية والأخلاقية والتقدُّمية التي بثَّها منذ قرنين وأكثر من الزمن، وتفاعل معها العالم كلُّه محاولًا اللحاق بركب التقدّم والتنوير؟!

السببُ يكمن في التنازل عن الوعي بالحق سببًا لاستمرار الحضارة، أي التهاون بالشروط الأساسية لقيام العلاقة السليمة بين الأمم. هذا الاستخفاف بالمبادئ الأولى للتشريع والتنظيم لأشكال وهياكل منظومات التواصل الكبرى هو الذي يدمِّرُ العالم. إنّ التشريعات والقوانين المدنية والعلمانية هي نتاج التفكير البشري الحر في فلسفة الحق، لذا إنذ اعتبار الحق ملكًا لمجموعة حضارية دون أخرى في هذا العالم سيقضي على هذه القيم الهنيئة في الحفاظ على الانسجام والوئام بين الناس.

هل يظن الأميركيون والبريطانيون أنَّ العرب والعالم لا يعرفون دورهم الخبيث؟

الأمن الفيدرالي الأميركي اليوم في خطر، بسبب سياسات الإدارة الأميركية التي لا تأبه لشيء سوى للفوز بالعملية الانتخابية الرئاسية. يُقتَل عددٌ من الجنود الأميركيين الموجودين على أراضٍ ليست أميركية أصلًا، وتُقصَف سفنٌ تجارية في البحر الأحمر، فتفكِّر أميركا بالرد أم لا! تُرى، هل يظن الأميركيون والبريطانيون حلفاؤهم أنَّ العربَ والعالم، لا يعرفون دورهم الخبيث في تعطيل قناة السويس، وبالتالي تعطيل المصالح الاقتصادية لمصر ودول الخليج العربي؟ هل يحسَب هؤلاء أنّ العربَ يمكن جرُّهم إلى معارك عبثية عدوانية إجرامية مقيتة، كتلك التي يمارسونها على أهل غزّة، لا بل يهددون بتوسعتها ويراوغون وكل ذلك يجري على أرض العرب!.

إذًا ما يجري هو توليد للأزمات وافتعال للمشاكل المستعصية بين الأمم، وتخريب قصدي للعلاقات بين الشعوب. لذا نقول لن ينقذكم الإرث الحضاري الأخلاقي بذاته، إذا لم تقرروا استعادة الوعي الحضاري بضرورة سيادة القيم الأخلاقية العليا الجامعة بين البشر بذواتكم الحاضرة في مراكز القرار. وليس مهمًا أن تكون الحقيقة واحدة، بل المهم أن يكون كل باحثٍ عنها ذا قيمةٍ في نفس أخيه، حتى يتَّسع الكون لجميع ساكنيه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن