لقد أكدّت المحكمة اختصاصها بنظر الدعوى بموجب المادة التاسعة من هذه الاتفاقية، وذهبَت إلى أنه بالنظر للعدد الكبير من القتلى والجرحى الفلسطينيين والتدمير واسع النطاق للمنازل والبنى التحتية والتهجير القسري للسكان، فإن هناك معقولية لحقوق الفلسطينيين التي تطالب جنوب أفريقيا بحمايتها وإلزام إسرائيل بتنفيذ واجباتها المنصوص عليها في الاتفاقية.
وعلى ضوء ذلك قضت محكمة العدل الدولية بستة تدابير مؤقتة هي بشكلٍ مختصر:
1- منع إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية في غزّة.
2- ضمان إسرائيل فورًا عدم قيام جيشها بأيٍ من أعمال هذه الجريمة.
3- اتخاذ إسرائيل التدابير اللازمة لمنع التحريض المباشر والعلني على ارتكاب هذه الجريمة ومعاقبة القائمين بالتحريض عليها.
4- اتخاذ إسرائيل التدابير الفورية والفعّالة من أجل توفير المساعدات الإنسانية.
5- كذلك اتخاذها التدابير الفعّالة لمنع تدمير الأدّلة المتعلَقة بادعاء ارتكابها أعمالًا تدخل في نطاق جريمة الإبادة الجماعية.
6- أخيرًا قيام إسرائيل بتقديم تقرير في غضون شهر واحد للمحكمة بحيث يتضمّن الإجراءات التي اتخذَتها لتنفيذ قرار المحكمة.
ولقد أيّد التدبيرين الأول والثاني ١٥ قاضيًا من إجمالي ١٧ قاضيًا (١٥ قاضٍ أساسي وقاضيان ممثّلان للطرفين المدّعي والمدّعى عليه وهما في حالتنا جنوب أفريقيا وإسرائيل)، حيث اعترضَ عليهما كلُ من القاضية الأوغندية والقاضي الإسرائيلي. وأيّد التدبيرين الثالث والرابع ١٦ قاضيًا، إذ لم تعترض عليهما سوى القاضية الأوغندية. أما التدبيران الخامس والسادس فلقد أيّدهما ١٥ قاضيًا واعترض كل من القاضية الأوغندية والقاضي الإسرائيلي.
تسليط الضوء على موقف القاضي الألماني هدفه التأكيد على أنّ قرار المحكمة يُعّد انتصارًا للشعب الفلسطيني
ولما كان النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يسمح للقضاة بتسبيب آرائهم في قراراتها، فلقد نشر بعضهم على موقع المحكمة الأُسُس القانونية التي استندوا عليها في مواقفهم من التدابير الستة التي سبقَت الإشارة إليها.
وسيتناول مقال اليوم نموذجًا لموقف أحد القضاة الذين أيّدوا كافة التدابير الستة، بينما سيتناول المقال اللاحق موقفَي القاضيين الأوغندية والإسرائيلي اللذين اعترضا على كل أو بعض التدابير.
اختار هذا المقال تسليط الضوء على موقف القاضي الألماني چورچ نولته، وذلك بالنظر إلى تأييده التدابير الستة رغم الموقف شديد الانحياز الذي اتخذّته الحكومة الألمانية لصالح إسرائيل، وهذا الاختيار ليس للقول إنه لا سياسة في القضاء فهناك قطعًا قدر من تسييس القضاء، لكن الاختيار هدفه التأكيد على أهمية قرار المحكمة وكيف أنه يُعّد انتصارًا للشعب الفلسطيني في حدود الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، حتى وإن لم يطالب القرار بالوقف الفوري للأعمال العسكرية.
أعرب القاضي الألماني عن تفهّمه لمنطق إسرائيل في رفضها الشديد لادعاءات جنوب أفريقيا عليها بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، فهي الدولة التي سبق أن تعرّض شعبها للجريمة نفسها قبل عام ١٩٤٨، ومثل هذا التفهّم من القاضي يعكس انحيازًا مبدئيًا لصالح إسرائيل، فمَن الذي قال إن الضحيّة لا تلجأ لتقليد سلوك الجلّاد؟، وكما أنّ موقف إسرائيل كان جديرًا بالتفهّم فإنّ موقف "حماس" أيضًا كان جديرًا بالتفهّم على ضوء تاريخ طويل من جرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
ثم أنّ القاضي وجد أنّ الأدلّة التي قدّمتها جنوب أفريقيا فيما يتعلّق بالعملية العسكرية الإسرائيلية تختلف (يقصد أنها ضعيفة) تمامًا عن الأدلّة المفحمة التي قدّمتها جامبيا في ادعائها أمام المحكمة على ميانمار بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد المسلمين الروهينجا -وكأن مئات الوثائق والڤيديوهات والصور والشهادات التي اطلعّت عليها المحكمة لا تنطق بالحق في حالة فلسطين.
وأضاف القاضي أنه من المهم النظر للصورة الكاملة التي تمّت فيها العملية العسكرية الإسرائيلية بما ينفي عنها نيّة الإبادة الجماعية، فكما قال القاضي كانت هناك دعوات إسرائيلية لإخلاء السكان المدنيين - ناسيًا أنّ إسرائيل كانت تخلي السكان من الشمال للجنوب ثم تقصفهم في الجنوب، وكان هناك توجيه رسمي لجنود إسرائيل بعدم استهداف المدنيين - ناسيًا قنص المدنيين والمسعفين والإعلاميين والمصورين، وسمحَت إسرائيل بإيصال قدر معيّن من المساعدات الإنسانية - رغم إشارة القاضي بنفسه لبيانات وكالات الأمم المتحدّة عن النقص الحاد في السلع الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة.
يبرّر القاضي الألماني موقفه بأنّ بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تؤدي لخطر حقيقي ووشيك
والحال هكذا، فلماذا إذن صوّت القاضي الألماني لصالح التدابير الستة؟.. يبرّر القاضي الألماني موقفه بأنّ بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين ومنهم عسكريون تؤدي لخطر حقيقي ووشيك وغير قابل للإصلاح بالنسبة للفلسطينيين وفق كلٍ من ميثاق الأمم المتحدّة واتفاقية الإبادة الجماعية، رغم أنّ هذه التصريحات على حدّ قوله يمكن فهمها على أنها موجهّة ضد "حماس" وباقي الجماعات المسلّحة في غزّة وليس ضد عموم الفلسطينيين.
ونخلص من ذلك إلى أنّ القاضي الألماني وافق بالكاد على التدابير الستة التي قضت بها محكمة العدل الدولية، وأنه لولا تصريحات القادة الإسرائيليين شديدة الفجاجة لكذّبنا عيوننا وصدّقنا أنه لا يوجد تهديد يُعتّد به لحياة ٢,٥ مليون فلسطيني، وهذا يضيء لنا على جانب من صعوبة المناقشات التي كانت تجري في كواليس المحكمة.
(خاص "عروبة 22")