بيد أنه يصدق القول إنّ الإسلام يُشكّل في بلدان الغرب الأوروبي الديانة الثانية (من حيث أعداد معتنقي الديانات التوحيدية) بعد المسيحية بتلويناتها الثلاثة الكبرى (الكاثوليكية والبروتستانتية والأنغليكانية). والحامل على الصدق في هذا التقرير هو أنّ هنالك مؤشرات تدل على ذلك، ولسنا نعتبر اعفاء اللحية عند الرجال أو الالتزام باللباس على نحو معيّن عند المرأة يدخل في جملة تلك المؤشرات - فهذه مظاهر خادعة من جهة وغير كافية، ميدانيًا، من جهة أخرى.
ومجمل الأبحاث الميدانية التي تعلقت بموضوع المسلمين في أوروبا أو في دول منها تؤكد ما نقول. وعلى سبيل التمثيل نشير أيضًا إلى أنّ أعداد المسلمين في ألمانيا يُمثّل 5 في المائة من مجموع السكان (حوالى 4 مليون من الأتراك في أصلهم القريب). وتتراوح النسبة في فرنسا بين 12 و 15 في المائة، في أقل التقديرات، ينحدرون في غالبيتهم العظمى من دول أفريقيا الشمالية. ولا تقل أعداد المسلمين الإسبان في إسبانيا عن 1% (وهنالك مؤشرات دالة تحمل على القول إنّ النسبة أعلى من ذلك قليلًا في كل من بلجيكا وهولندا وإيطاليا).
اليمين المتطرّف يسعى إلى ترسيخ الاعتقاد بوجود علاقة مباشرة بين المشكلات الاجتماعية والوجود الإسلامي في أوروبا
تستوجب هده اللوحة التقريبية إبداء ملاحظات سريعة ثلاث. أولاها أنّ هذا الواقع يجد تفسيره في جملة الأسباب الداعية للهجرة الى أوروبا بحثًا عن الرزق، مثلما أنّ الصورة تعكس، في مجملها، جملة الروابط التاريخية بين بلدان شمال أفريقيا ودول أوروبا الغربية عامة وفرنسا خاصة. ذلك ما يُفسّر لنا لمَ كانت نسبة المهاجرين العرب الجزائريين إلى فرنسا تفوق، بمفردها، نصف أعداد المسلمين في هذا البلد. الملاحظة الثانية هي أنّ الأعداد المذكورة عرفت تناميًا سريعًا منذ سبعينات القرن الماضي خاصة. الملاحظة الثالثة، والأخيرة، هي أنّ صورة الإسلام - في معنى التمثّل الأوروبي للإسلام بحسبانه عقيدةً وسلوكًا من قبل معتنقيه، قد أصابها خلل وتبّدل سريعين ومتلاحقين بالنسبة لما كانت عليه الصورة عقودًا قليلة قبل ذلك.
ليس من موضوعنا اليوم أن نخوض في أمر تحوّل صورة الإسلام في الوعي الأوروبي الحالي، ولعلنا نكتفي بالإشارة إلى أنّ لهدا الواقع الجديد صلة قوية بتنامي المد اليميني المتطرّف في دول أوروبا الغربية العامة وكذا بالصراع السياسي الداخلي في تلك البلدان على نحو يجعل من هجرة مسلمي أفريقيا الشمالية خاصة قضية محورية ترتبط بها مشكلات البطالة وسوق العمل. وبصفة عامة نقول إنّ اليمين المتطرّف، في بلدان أوروبا الغربية يسعى إلى ترسيخ الاعتقاد بوجود علاقة علية مباشرة بين وجود كل المشكلات الاجتماعية التي تعيش فيها مجتمعات تلك الدول وبين الوجود الإسلامي الذي يسعى إلى العصف بقيم الجمهورية (كما يُقال في فرنسا) ومن ثم التهديد القوي والمباشر الذي يحف بالهوية المميزة للدولة، في تلك البلدان.
قطعت دول أوروبا الغربية أشواطًا غير قليلة على درب التحديث والأخذ بالقيم المدنية، في مقابل القيم الدينية (على نحو ما سعينا إلى توضيح دلك في أحاديث سابقة في هذا المنبر - مما يمكن الرجوع إليه). لذلك فنحن نكتفي بإجمال القول إنّ الصورة التي ظلّت ترتسم في الوعي الأوروبي للحضارة الغربية تقضي باعتبار الأساس المعرفي - الإيديولوجي لهذه الحضارة هو العماد الإغريقي - المسيحي في مقابل الرأي الذي كانت له الغلبة في الوعي الأوروبي في الأزمنة البعيدة والذي كان يلح أشد الإلحاح على اعتبار العماد الإبستمي الذي يسند الحضارة الغربية ويفسّرها هو العماد المسيحي- اليهودي.
جبهة أيديولوجية تناضل من أجل إحياء المنزع اليهودي - المسيحي رافدًا أساسيًا في فهم مكوّنات الحضارة الغربية
يُشكّل دعاة اليمين المتطرّف، وواجهته الثقافية خاصة، جبهة أيديولوجية تناضل من أجل إحياء المنزع اليهودي - المسيحي رافدًا أساسيًا، إن لم يكن وحيدًا، في فهم مكوّنات الحضارة الغربية. وفي المقابل يُمثّل الإسلام، عند هذا اليمين، خصمًا يستهدف النيل من الأساس الروحي للحضارة الغربية المعاصرة ومن ثم يُشكّل خطرًا داهمًا تجب محاربته.
تلك هي مجمل ملامح حضور الإسلام في الوعي الثقافي العام في أوروبا الغربية - وعي تمثّل فيه وسائل الاعلام الكبرى السند والسبيل الأعظم للهيمنة والانتشار. بيد أنّ الجديد، المفاجئ، هو أنّ هذه الصورة التي تم الارتكان إلى رسمها في الوعي العام قد نالها، بدورها نصيب غير يسير من "ارتداد زلزال الأقصى".
هذا الجديد هو ما يستدعي أن نفرد القول فيه بحديث مقبل.
(خاص "عروبة 22")