تقدير موقف

"الربيع العربي".. ضرورة الديمقراطية وطريقها

دقت الصحوة العربية المحدودة ما بين 1990-2010 جرس الإنذار في الواقع العربي، فأشارت إلى تدهور الأوضاع العربية عامة، ودققت في أوضاع بعض البلدان، وطالبت القيام بإصلاحات وتغييرات جوهرية، تشمل النظام السياسي القائم والعلاقات بين الدول العربية وعلاقات الأخيرة مع المجتمع الدولي في سياق مسار العرب نحو المستقبل.

غير أنّ الأنظمة الحاكمة، لم تُسجّل أي استجابة ذات أهمية، وذهب بعضها على نحو ما فعل نظام الأسد في سوريا في طريق القضاء على اتجاه الإصلاح الصاعد في فترة ربيع دمشق، والتهرّب من الإشارات التي صدرت عن رئيسه في فترة وصوله إلى سدة السلطة عام 2000، ثم اندفع نحو تجديد تدخلاته في دول الجوار، ففتح خطًا لإرسال الجهاديين إلى العراق، ودفع لبنان للدخول في تجربة صراع دموي بعد رعايته ومشاركته في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعدد من السياسيين والإعلاميين الذين أداروا وشاركوا انتفاضة اللبنانيين ضد نظام الأسد في 2005، وأدت إلى إخراج قواته الأمنية والعسكرية من لبنان.

لقد تشارك سوريون ولبنانيون الصوت والجهد من أجل تصحيح السياسات السورية واللبنانية والعلاقات بين البلدين والشعبين ومن أجل أخذهم إلى مستقبل أفضل حسب محتوى إعلان دمشق بيروت - بيروت دمشق الذي وقّعه تباعًا في منتصف عام 2006 ما بين 274 و500 من المفكرين والمثقفين والنشطاء اللبنانيين والسوريين.

سعى التغييريون العرب من أجل رسم مسارات إصلاح وتغيير غير أنّ سياسات بعض الأنظمة قاومت تلك الجهود

لم يكن جهد الناشطين السوريين واللبنانيين المشار إليه منفردًا، لا في قواه، ولا بتشارك أطراف من بلدان عربية في مساعي استنهاض جهود مشتركة من أجل الإصلاح والتغيير، ومنها خط تعاون بين لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا مع حركة كفاية في مصر وبين منظمات حقوق الإنسان في سوريا وشقيقاتها المصرية، والتي استمرت في أغلب سنوات العشرية التي سبقت الربيع العربي، وحققت تلك العلاقات نتائج إيجابية، لكنها أقل من المرتجى، وهو المستوى الذي يمكن أن توصف فيه أنشطة كثير من مراكز البحث والدراسات والاستشارات، التي ظهرت في تلك الفترة، وسعت إلى إحداث تغيير في المستوى العربي العام، وثمة مثال معروف منها، تُجسّده مبادرة الإصلاح العربي، التي تأسّست في باريس بوصفها شبكة مستقلة بمشاركة مراكز ومعاهد بحثية عربية وأوروبية وأمريكية، رسّخت منذ تأسيسها عام 2005 انطباعًا في الأوساط البحثية ودوائر صنع القرار باعتبارها منتجة للمعرفة، من خلال الأبحاث، وبناء مجموعات عمل في دول مختلفة، وإنشاء وتطوير شبكة واسعة من الباحثين والنشطاء ممن يتقاسمون الرؤى الإصلاحية.

لقد سعى التغييريون العرب في مستوى أغلب البلدان ومستوى العمل العربي العام من أجل رسم مسارات إصلاح وتغيير، بل إنّ بعضهم دخل عمليًا بدرجة أو بأخرى بعض تلك المسارات، غير أنّ سياسات بعض الأنظمة العربية، انخرطت في مقاومة تلك الجهود عبر عمليات قمع واسعة، والتي ترافقت مع تصعيد التدخلات الإقليمية والدولية، مما أضعف قوى التغيير ومساعيها، وعزّز خوف الأنظمة، وأدى إلى دمار كبير في بعض البلدان حيث دمّر الغزو الأميركي العراق عام 2003، واستنزاف طاقات عدد من البلدان العربية، وسبّبت إسرائيل دمارًا واسعًا للفلسطينيين في الضفة الغربية في حرب "الدرع الواقي" 2002، وفي غزّة 2008، وشاركت إسرائيل مع إيران ونظام الأسد في تدمير لبنان من خلال تصعيد الصراع اللبناني أواسط العقد الأول من القرن 21، وعبر حرب إسرائيل على لبنان 2006.

لقد وصلت الحال العربي إلى حد غير مسبوق في تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شك أنّ أموال دول النفط ساعدت أصحابها والأنظمة المقرّبة منهم في تخفيف حالة التردي، لكنها لم تمنعه، فاندلعت خلافات عربية قوية في القمة عام 2010، أفشلت جهود عربية لإصلاحات اقتصادية وسياسية في المستوى القومي والقطري، كما تم إفشال محاولة لإصلاح الجامعة العربية، قدّمها الأمين العام للجامعة.

وسط بيئة من الدمار والعجز الرسمي العربي عن الذهاب إلى إصلاحات، اندلعت ثورات الربيع العربي أواخر العام 2010، وكانت فاتحتها تونس، ثم تبعتها مصر، قبل أن تعم الثورات أو إرهاصاتها الأولى أغلب البلدان العربية، معلنةً رغبة أكثرية الشعوب في تغيير ديمقراطي، يوفر الحرية والعدالة والمساواة للجميع، وللحق فإنّ تعامل الأنظمة مع الثورات، سار في تكتيكات مختلفة. ففي سوريا ذهب النظام إلى الحد الأقصى من التعامل الدموي مع السوريين ورسم لوحة هي الأسوأ في الرد على مطالب المتظاهرين، فيما استطاع الأردن جار سوريا في الجنوب القيام بإجراءات محدودة متّبعًا سياسة العصا والجزرة، وبين الحالتين تنوّعت مسارات ثورات الربيع العربي، واختلفت نتائجها في كل بلد.

بات علينا أن نغيّر طريقة التفكير والأدوات لنستطيع أن نحقق خرقًا نحو تحوّل ديمقراطي يستجيب لاحتياجاتنا

أما أهم نتائج الثورات على الواقع العربي العام، فكان أبرزها ما أصاب البلدان العربية وسكانها من خسائر بشرية ومادية من قتل وجرح الملايين واعتقال واختفاء ملايين آخرين، وهجرة ولجوء، جعلت من العرب أكبر نسبة من المهاجرين في العالم، وسط تقديرات مخيفة عن قيمة ما تم تدميره في السنوات الـ13 الماضية والمقدّرة بآلاف مليارات الدولارات، إضافة إلى انهيار سياسي واقتصادي واجتماعي في أغلب البلدان مثل سوريا واليمن والسودان وليبيا، وصعود عنف الانظمة مدعومة بقوى أجنبية، وصيرورة الأمن موجه السياسات في كل المجالات والمستويات، وصعود التطرّف والتشدد مع تزايد حضور الجماعات الإسلامية، وتوجه مزيد من العرب إلى الهجرة هربًا من وقائع صعوبات الحياة في أغلب البلدان العربية سواء لأسباب أمنية سياسية، أو لأسباب اقتصادية ومعاشية واجتماعية وسط انسداد آفاق حلول قريبة، وصارت الأكثرية العربية بلدانًا وسكانًا، في عمق كارثة مركّبة، تحتاج طاقات وجهود استثنائية للخروج منها، والذهاب إلى حياة ومستقبل أفضل.

ولا يحتاج إلى تأكيد، أنّ نتائج ما حدث، تضيف إلى معوقات التحوّل الديمقراطي في البلدان العربية معوقات جديدة، وفقًا لما اعتدنا عليه في النظر إلى الديمقراطية وسبل الوصول إليها في رؤية معوقاتها وضرورة معالجتها، غير أنه وبعدما عجزت هذه القاعدة في الماضي وعجزنا على ما كنا عليه من تفكير وأدوات، بات علينا أن نغيّر طريقة التفكير أو نعدّلها، وأن نغيّر الأدوات ونعدّلها هي الأخرى بحيث نستطيع أن نحقق خرقًا نحو تحوّل ديمقراطي يستجيب لاحتياجاتنا، ويراعي أوضاعنا الراهنة.

الديمقراطية المطلوبة في البلدان العربية ليست أداةً للحكم بل طريقة لإدارة الدولة والمجتمع وتطويرهما

إننا ونحن نتجه في طريق جديد نحو تحوّل ديمقراطي يبدو إلزاميًا، لا بد من توقف عند الأهم في ضروراته وملامحه وأدواته وغيرها من خصائص تميّزه عما سبقه من تجارب في الديمقراطية وتحوّلاتها، التي يقول السويسريون وهُم أصحاب أقدم التجارب في العالم، إنها تجاوزت الخمسين نسخة، وأعتقد أنّ ما نسعى إليه سوف يكون نسخة جديدة وربما نسخًا جديدة، تستند إلى أسس أبرزها: أنّ الديمقراطية المطلوبة في البلدان العربية أُمّ الضرورات، لا بديل لها، وليست أداةً للحكم بل طريقة لإدارة الدولة والمجتمع وتطويرهما، وهي ليست أداة أيديولوجية قومية أو دينية أو يسارية تخص طرفًا أو جزءًا من مكونات الجماعة الوطنية، بل أداة سياسية هدفها الأفضل، وهي طريقة خاضعة للقياس والمراجعة والتصحيح، ودور الجماعات السياسية والمدنية والأهلية فيها مهم، لكنها أهمية تقاس طبقًا للمواقف العملية والإنجازات، ولعل الأهم من كل ما سبق، يتصل بالبيئة التي ينبغي أن تشكل حاضنة لمشروع التحوّل الديمقراطي، وأساسها أن تكون توافقية، تسود فيها روح التشارك لا التعطيل، وسلمية تنبذ العنف والصراعات التي تقود إليه، وتقوم على المشتركات، وتؤجل المختلف عليه، وتراكمية تبني على ما سبق، ولا تعيدنا في كل مرّة إلى أول الطريق.

ونحن نتأمل ونبحث، علينا أن نفكّر بمن عاصرنا من شعوب، وكنا شهودًا على تقدّمها بطرق ثورية في خلال القرن الماضي، لقد تقدّم كثيرون في العالم، وغيرهم يدخل سباقات على طريق التقدّم، فيما نحن في المستويين القومي وفي أغلب القُطريات، تراجعنا، وأضاع أغلبنا ما سبق تحقيقه من تقدّم.


لقراءة الجزء الأول: الديمقراطية وتحوّلاتها في البلدان العربية

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن