ولتفسير ذلك، يمكن اعتبار الأسباب الذاتية وربّما النفسية، من العوامل التي وقفت عائقًا أمام تحقيق هذا المشروع، بالإضافة إلى الطموحات الإقليمية لكلّ من الجزائر والمغرب وخاصّة استمرار الخلاف حول قضية الصحراء بينهما.
ورغم هذا التنافر، لا يتردّد الزعماء المغاربة في الاجتماع والعمل في أطر إقليمية أخرى مثل مجموعة "5 زائد 5" التي تَجْمَعُ دول الحوض الغربي للبحر المتوسط، العربية والأوروبية، كما يلتقي الزعماء ويجتمعون في إطار "الاتحاد من أجل المتوسط"، في الوقت الذي تُستحضر فيه مختلف الذرائع والعراقيل أمام محاولة بعض الزعماء منهم لإنجاز الحدّ الأدنى مما اتفقت عليه تلك الزعامات في مدينة مراكش قبل ثلاثة عقود ونيّف من الزمن.
بيّنت الوثائق والمذكّرات الشخصية لبعض القيادات الغربية دور القوى الكبرى في عرقلة مشروع الاندماج المغاربي
بالرغم من ثقل هذه العوامل الذاتية وسطوتها في استمرار عجز الاتحاد على الاستمرار والديمومة، لا يمكن إغفال دور القوى الكبرى، وهو دورٌ يظل عاملًا أساسيًا ومحوريًا في عملية التعطيل تلك، بعيدًا عن فكرة المؤامرة التي تضع عادة مسؤولية فشل مشاريع النهوض العربي، بأبعادها الاقتصادية والسياسية، على الآخر، أي القوى الدولية الكبرى أو الدولة الصهيونية، في قضايا ذات علاقة بالمشرق العربي.
يبدو أنّ دور تلك الأطراف، مفصليٌ وحاسمٌ في تعطيل مختلف محاولات إنجاز مشروع الاندماج المغاربي، إذ بيّنت الكثير من الوقائع وحتى بعض الوثائق والمذكّرات الشخصية لبعض القيادات السياسية الغربية بالفعل، دور تلك القوى الكبرى في عرقلة تلك المشاريع وتعطيلها خدمةً لمصالحها القومية وتحالفاتها الدولية.
لقد عملت القوى الأوروبية منذ القرن التاسع عشر في إطار الحركة الاستعمارية من أجل السيطرة على المنطقة ووضع قواعد محدّدة لمناطق هيمنتها، في حين تحوّلت الدول المغاربيّة بعد استقلالها السياسي إلى فضاءِ تجاذب وتنافس بين الكثير من تلك الدول المواجهة جغرافيًا للفضاء الجغرافي المغاربي، ناهيك عن العامل التاريخي المتمثّل في السيطرة الاستعمارية.
ويبدو أنّ من أكثر القوى "حرصًا" على عدم تفعيل الاتحاد المغاربي، مؤسّسة الاتحاد الأوروبي باعتبار قرب بعض دول الاتحاد من البلدان المغاربية الخمسة وعلاقاتها التاريخية بدوله، وذلك على الرغم أنّ مصلحة الاتحاد الأوروبي تتمثّل موضوعيًّا في الحفاظ على استمرار هذا الهيكل وحيويّته باعتبار أنّ استمراره يُساعد دوله على مواجهة المشكلات الاجتماعية، من قبيل الفقر والبطالة وانتشار ظاهرة التطرّف الديني والتقليص من تنامي ظاهرة الهجرة السرية التي تقضّ "مضاجع" دول الاتحاد الأوروبي التي تعتبرها خطرًا على مستقبلها.
لقد كشفت التجربة أنّ معالجة تلك المشاكل وتداعياتها من قبل دول المنطقة المغاربية بشكل منفرد والاتحاد الأوروبي كانت محدودة النتائج بالنسبة إلى جميع الأطراف، بل كان من المفروض أن يكون تعامل أوروبا مع كتلة مغاربيّة واحدة أجدى من التعامل الثنائي.
لماذا لا تتحمّس دول الاتحاد لقيام الاتحاد المغاربي والمساعدة على إسناده وتطوير أدائه ما دام يُمثّل مصلحةً حيويةً لدوله بل لمصلحتها أيضًا؟! ولماذا تفضّل دول الاتحاد الأوروبي التعامل ثنائيًا مع دول المغرب العربي بشكل منفصل، في الوقت الذي تسعى فيه إلى إدماج دول المنطقة في أطر إقليمية أوسع؟ ولماذا ساندت ودعمت المملكة المتحدة مجلس التعاون الخليجي كتكتل إقليمي دون عرقلة دوامه واستمراره؟ ولماذا لم تعترض الولايات المتحدة الأمريكية ذات المصالح الاقتصادية والجيو-استراتيجية في المنطقة على قيام هذا المجلس، في حين يظلّ موقف الاتحاد الأوروبي باهتًا إزاء جمود الاتحاد المغاربي وهو أكثر الأطراف الدولية قدرةً وفاعليةً على المساعدة في إعادة الروح لاتحاد المغرب العربي وتفعيله بالنظر للعلاقات التاريخية والاقتصادية والسياسية المتينة التي تربط بعض دوله مع دول المنطقة؟.
المصالح الاستراتيجية والسياسية لبعض دول الاتحاد الأوروبي تتطلّب استمرار دول المغرب العربي منقسمة ومشتّتة
على خلفية هذه الأسئلة المعلّقة، يبدو أنّ أي شكل من أشكال وحدة المنطقة المغاربية أو اندماجها اقتصاديًا، يتناقض في العمق مع المصالح الاستراتيجية والسياسية والحضارية، لبعض دول الاتحاد الأوروبي، وهي المصالح التي تتطلّب استمرار دول المغرب العربي بـ"وضعها الراهن" منقسمة ومشتّتة، ضعيفة الموقف، بما يسمح للاتحاد الأوروبي بالتعامل معها بشكل ثنائيّ وليس كمجموعة موحّدة الأهداف، وهو أمرّ يحقّق لتلك الدول أهدافها الآنية والاستراتيجية اقتصاديًا وسياسيًا.
ورغم ذلك، يظلّ الأمل قائمًا في قدرة أبناء المنطقة ونخبه في إنجاز هذا المشروع الذي ضحّى الكثيرون من أجله باعتباره مشروعًا له كامل القابلية لمساعدة أهل المغرب العربي على حلّ الكثير من مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية التي تستعصي معالجتها بشكل منفرد.
(خاص "عروبة 22")