قضايا العرب

"هجرة الأدمغة" التونسية.. نزيف يهدّد مستقبل البلاد!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

يتنامى عدد التونسيين من ذوي الاختصاصات المهمّة كالطب والصيدلة والهندسة الذين يتجهون للعمل خارج البلاد بعد أن تلقوا تكوينهم العلمي وسنوات الخبرة في تونس منذ سنة 2011. وتفاقم العدد في السنوات الأخيرة إلى مستويات كبيرة الأمر الذي أثار المخاوف من مغبة إفراغ البلاد من كفاءاتها خاصة في اختصاصات علمية وهندسية يحتاجها اقتصاد البلاد حاضرًا ومستقبلًا.

يحدث هذا الاستنزاف للأدمغة التونسية في وقت تبدو فيه الدولة عاجزة عن إيجاد حلول أو خلق بيئة أكثر استقطابًا لكفاءاتها رغم هول الأرقام الرسمية المعلنة بشأن الكفاءات المهاجرة سنويًا.

"أمضيتُ ست سنوات في العمل في مستشفى عمومي كبير بالعاصمة ولكن كنتُ دائمًا أتطلّع للهجرة. صحيح أنّ الجميع في تونس ينظر إلى مهنة الطبيب على أنها مهنة الأحلام سواء على مستوى المكانة الاجتماعية أو الرواتب ولكن الحقيقة التي نواجهها غير ذلك. حتى وإن كنا نرغب في البقاء في تونس فإنّ عدة عوامل تجعلُنا نختار المغادرة لدول أخرى تبحث عنا. من جهة تفتقر المستشفيات العمومية في تونس غالبا إلى التجهيزات الطبية اللازمة وهذا يضعنا كأطباء في مواجهة مع المرضى الذين لا يتوجهون لمطالبة الدولة بتحسين المستشفيات وتجهيزها بل يصبون جام غضبهم علينا ويحملوننا المسؤولية. وصرنا نواجه العنف اللفظي والمادي باستمرار خاصة في السنوات التي تلت 2011. ومن جهة أخرى لا يتوفر في عدة مستشفيات أطباء اختصاص بالعدد الكافي في بعض الأقسام وهذا بدوره يجعل عملنا معقدًا ونواجه مواقف صعبة أمام مرضانا الذين نعجز أحيانًا عن تقديم العلاج المناسب لهم. زد على ذلك ضعف رواتبنا كأطباء في تونس مقارنة حتى بنظرائنا في دول عربية قريبة ما يصيبنا بخيبة أمل ويجعلنا نتطلع للهجرة لبلدان تُقدّر كفاءتنا أكثر وتوفّر لنا الإمكانيات لنمارس عملنا في ظروف مناسبة".

بهذه الكلمات تحدث الدكتور ماهر (35 سنة - طبيب عيون هاجر من حوالى سنتين إلى فرنسا حيث يعمل الآن في إحدى المستشفيات في العاصمة باريس) لـ"عروبة 22" عن اختياره الهجرة رغم أنه ينتمي لعائلة ميسورة.

وماهر ليس الكفاءة الوحيدة في تونس التي باتت تطرق باب الهجرة بدل البقاء في تونس بعد أن تكمل دراستها فيها وتكتسب سنوات الخبرة اللازمة لتذهب فيما بعد إلى دول المهجر جاهزة على جميع المستويات.

6500 مهندس يهاجرون سنويًا

وتتصاعد موجة هجرة الأدمغة في تونس بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، إذ لم تفلح وعود الدولة ومساعيها لإصلاح التعليم في سبيل الحد من تفاقم الظاهرة ولم تنجح في إقناع الكفاءات التي أنفقت عليها أموالًا طائلة لتعليمها بالبقاء في البلاد في ظل الأزمة الاقتصادية التي لا يبدو أنها ستُحل على المدى القريب إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة من سنة إلى أخرى والتي تطال خاصة خريجي الجامعات بما في ذلك حاملي شهادة الدكتوراه. إذ يهاجر سنويًا 6500 مهندس، بمعدل 18 مهندسًا يغادرون تونس يوميًا، حسب عميد المهندسين التونسيين كمال سحنون الذي أكد أنّ المغادرين ليسوا حديثي التخرّج، بل هم مهندسون راكموا التجربة وتعلّموا أساسيات المهنة ثم تفرّط فيهم الدولة لتنمية اقتصاديات دول أخرى.

وأضاف سحنون لـ"عروبة 22": "هناك إقبال على المهندس التونسي في كل دول العالم، أفريقيًا وأوروبيًا وأمريكيًا وأستراليًا وفي الخليج العربي، بسبب تكوينه العلمي الجيّد وقدرته العالية على الاندماج في العمل. ومن المؤسف أن تنفق الدولة على المهندس الواحد حوالى 100 ألف دينار (35 ألف دولار) لتعليمه، ثم تهديه جاهزًا لبلدان أخرى".

تجدر الإشارة إلى أنّ المهندسين في تونس يتوزّعون بين 4 آلاف في الوظيفة العمومية و12 ألفًا في المؤسسات العمومية و64 ألفًا في القطاع الخاص، ويتخرّج 8 آلاف مهندس جديد كل سنة، 45% منهم إناث.

80% من الأطباء هاجروا

وكذلك، غادر أكثر من 3500 طبيب باتجاه أوروبا ودول الخليج وكندا ما بين سنتي 2015 و2019 حسب تقديرات المرصد الوطني للهجرة. وتقول عمادة الأطباء إنّ 80% من الأطباء المتخرّجين قد غادروا البلاد في السنوات الأخيرة للعمل في دول أجنبية، تتصدّرها ألمانيا وفرنسا ودول الخليج العربي وكندا، علمًا أنه يتخرّج سنويًا نحو 500 طبيب من مختلف كليات الطب بتونس.

وهناك خوف من أن تجد تونس نفسها على المدى القريب تعاني نقصًا كبيرًا في عدد الأطباء لا سيما وأنّ دراسة صادرة عن وزارة الصحة سنة 2019 قد ذكرت أنّ 1356 طبيبًا، منهم 776 طبيبًا عامًا و580 متخصصًا سيحالون على التقاعد سنة 2030. بمعنى أنه في حال تواصل نسق هجرة الأطباء كما هو الحال منذ سنوات دون تدخّل من الدولة، فإنه وفي غضون سنوات قليلة ستواجه البلاد أزمة حقيقية في هذا المجال.

أساتذة جامعيون وعلماء

بدورها شهدت هجرة الأساتذة الجامعيين، زيادة كبيرة في السنوات الأخيرة أيضًا، ليصل عدد الأساتذة الجامعيين الذين هاجروا 1464 أستاذًا حسب إحصائيات رسمية. أما بالنسبة للعلماء المغادرين فإنّ عددهم يقارب 4200 عالم تستقطب فرنسا 31% منهم، تليها كندا بـ30%، ثم الولايات المتحدة بـ11% وألمانيا بـ10%. وهذه الأرقام تستثني الكفاءات التي تهاجر بصورة غير منظّمة.

وفي تعليقه على هذا النزيف يقول رمضان بن عمر، الناطق الرسمي بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمكلف بشؤون الهجرة، لـ"عروبة 22" إنّ "نزيف هجرة الكفاءات يتفاقم في تونس سنويًا، فالبلاد تفقد عددًا كبيرًا من كوادرها وكفاءاتها الذين اختاروا التوجه لأوروبا والخليج العربي وأمريكا وكندا بعد أن تحمّلت الدولة تكاليف دراستهم لتقدّمهم بكامل جاهزيتهم لبلدان المهجر، ويضيف: "من المؤسف أن تنفق الدولة مثلًا 500 ألف دينار تونسي (حوالى 165 ألف دولار أميركي)، لتكوين طبيب واحد، أضف إلى ذلك المهارات العملية اللازمة التي يتلقاها في مستشفياتها ثم تستقطبه دول أخرى دون أن تدفع شيئًا".

ويشدد بن رمضان على أنّ "الخطير أنّ الدولة لا تبدي اهتمامًا ووعيًا بخطورة هذا النزيف الذي يحدث في فترة يتجه فيها العالم للرقمنة والذكاء الاصطناعي التي تتطلب توفر كفاءات في اختصاصات علمية تغادر تونس بنسق كبير. زد على ذلك أنّ الدولة تتطلع لتطوير اقتصادها في السنوات القادمة ولكنها لا تكترث لهجرة مهندسيها وعلمائها بأعداد كبيرة سنويًا. الأكيد أنّ الوضع بات خطيرًا والدولة مطالبة بالتجاوب مع النداءات والتحذيرات المتتالية لإيجاد الحلول اللازمة قبل حدوث الكارثة".

الأسباب

وهناك جملة من الأسباب التي تدفع الكفاءات التونسية لاختيار درب الهجرة، لكن أبرزها أولًا الإغراءات المادية التي تقدمها المؤسسات المنتدبة مقارنة بالرواتب المتدنية في تونس. فعلى سبيل الذكر لا الحصر يساوي أجر المهندسين في فرنسا وكندا وألمانيا أكثر من 6 أضعاف أجرهم في تونس.

أما السبب الثاني فهو المناخ العلمي المتطوّر الذي توفره بلدان المهجر خاصة للأطباء والمهندسين ووسائل البحث العلمي المتاحة على خلاف الوضع في تونس. حيث يواجه الباحثون صعوبات كبيرة لا سيما في ظل عدم توفر مختبرات بحث تستقطبهم برواتب مناسبة، وحتى في حال توفرها فهي لا توفّر الإمكانيات المادية والتقنية الكفيلة بإنجاح بحوثهم وبلورتها إلى مشاريع ناجحة.

ثالثًا، تدفع البطالة الكبيرة التي تطال أصحاب الشهادات العليا من بينهم 4740 مهندسًا و1500 طبيب و4000 من حاملي شهادة الدكتوراه أغلبهم في اختصاص البيولوجيا والكيمياء والفيزياء لمغادرة البلاد لكسر بطالتهم.

رابعًا يسود اعتقاد بأنّ تونس لا تهتم بالمتفوّقين والمتميّزين من الخريجين في سوق العمل الذي تذهب فيه الفرص الكبرى والمهمة لأشخاص إما يدفعون الرشاوى أو يصلون إليها بفضل العلاقات والولاءات وغيرها، في حين يواجه الكثير من أصحاب الكفاءات والمتفوّقين البطالة والتهميش. وهو عامل يصيب الكثير، من المتفوّقين خاصة، بالاستياء والإحباط ما يدفعهم للتوجّه مباشرةً للهجرة حيث يجدون التقدير الذي يتطلعون إليه والفرص التي ينتظرونها برواتب مغرية.. وتكفي الإشارة إلى أنّ عدد العاطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا في تونس قد تضاعف من 130 ألفًا في عام 2010 إلى 300 ألف عاطل في عام 2020.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن