وجهات نظر

"آصف بيات" والربيع العربي (1/2)

"آصف بيات"؛ أكاديمي أمريكي من أصل إيراني، دأب على متابعة "الديناميات" الشعبية القاعدية في "تحوراتها" الاجتماعية - السياسية المختلفة.

تميّزت متابعات "بيات" باتباع منهج مغاير لما دأبت عليه مدارس علم الاجتماع المتعارف عليها يمكن أن نطلق عليها "سوسيولوجيا العاديين/العوام وحركيّتهم المقاومة في الحياة اليومية وبالأخير ثوراتهم"؛ حيث يقوم برسم خريطة تفصيلية لهؤلاء العاديين، ويشرح كيف يواجهون العسف والغبن والإقصاء وعدم الإنصاف يومًا بيوم بفعل سياسات الليبرالية الجديدة غير المنصفة لهم والتي تتحصن باستبداد سياسي يحول دون أن يعبّروا عن رفضهم لهذه السياسات وللسلطة السياسية التي تقرّها. وبالأخير كيف تتكثف المواجهات في فعل ثوري جمعي في لحظة تاريخية معينة.

ومن ثم يصف هذه الكتلة بأنها "الطبقة الخطرة"؛ لأنها طبقة عريضة تضم شرائح اجتماعية عديدة وفئات نوعية مختلفة تُمثّل غالبية السكان في أي دولة إذ تضم: الطبقة الوسطى - الوسطى، والطبقة الوسطى - الدنيا، وكل شرائح الطبقة الفقيرة. ومن ثم تعد "طبقة خطرة".

الطريق إلى "حراكات" الربيع العربي

في ضوء ما سبق، قارب الشأن الإيراني في كتابه المبكر الصادر في 1997: "سياسات الشوارع" Street Politics؛ الذي تناول فيه حركية الناس الفقراء في إيران. والذي استطاع فيه، في تقديري، أن يقارب الواقع الشرق أوسطي وما يفور فيه من غضب عارم جراء تعرّض معاشهم لـ"لايقين". وتابع هذا النهج في مقاربته للواقع المصري من خلال كتابه الصادر في 2009: الحياة كسياسة: كيف يغيّر الناس العاديون الشرق الأوسط ( Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East)؛ حيث واصل فيه تناوله للكيفية التي يعبّر فيها "العاديون"، في مصر، ممارسة نوع من التغيير الناعم من خلال ما يصفه بـ"النيل القسري الصامت"؛ الذي يمارسه الفقراء من أجل اقتناص فرص معيشية توفّر حدًا أدنى للحياة الكريمة.

ما من أحد تقريبًا توقع حدوث الثورات العربية ولا حتى أولئك الذين كانت مهمتهم مراقبة مثل هذه الأحداث

وفي الكتابين المذكورين تسنى لـ"بيات" أن يرصد السياق المجتمعي - الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي- المأزوم في دولتين مركزيتين تاريخيتين هما؛ إيران، ومصر؛ قد جمع بينهما الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية. ما أدى، في النهاية، إلى سلوك جمعي متمرّد من الغالبية المتضررة تجلى في العديد من المظاهر الاحتجاجية دون انتظام إطاري لحركتهم لذا أطلق "بيات" على هذا السلوك الجمعي "اللاحركات الاجتماعية"؛ وكيف أنه وبمرور الوقت وتفاقم الأوضاع السيئة تتمدد الاحتجاجات في المجال العام دون تنظيم يخطط لها أو يوجهها فيما وصفه "بيات" بـ"فن الحضور"؛ بالرغم من الاستبداد أو الديمقراطية المقيّدة. فلقد استطاع المواطنون العاديون أن يفرضوا وجودهم الفاعل والمؤثر من خارج الأطر/القنوات السياسية/المدنية التقليدية المؤسسية. وتواصل هذا الحضور وتمترس في المجال العام في انتظار الفرصة السانحة للتعبير الثوري عن نفسه. وحول تمترس العوام أو فن حضورهم الفاعل يطرح "بيات" سؤالًا بحثيًا هل لم تستطع السلطات أن ترصد تنامي هذا الحضور؟.

يجيب "بيات" في كتابه "ثورة بلا ثوار.. كيف نفهم الربيع العربي"، الذي صدرت طبعته الإنجليزية عام 2017 - ترجمه فكتور سحاب إلى العربية ونشره مركز دراسات الوحدة العربية عام2022 -، بأنه "ما من أحد تقريبًا توقع حدوث الثورات العربية، ولا حتى أولئك الذين كانت مهمتهم مراقبة مثل هذه الأحداث. فوكالات الاستخبار والمؤسسات السياسية ومراكز البحوث قد أخذت على حين غرة، كما قيل، أمام الأحداث الجسام التي بدأت في تونس ومصر، ثم انتشرت كالنار في الهشيم عبر المنطقة. وحتى بدا أنّ أجهزة الاستخبارات الأمريكية، كانت على ثقة من أنّ نظام مبارك آمن كفاية، ولا يمكن أن تطيحه حفنة من المتظاهرين المعهودين الذين كانوا يظهرون في شوارع القاهرة بين فينة وفينة. كذلك كانت حال دراسة أدبيات أبحاث الشرق الأوسط المعروفة جيدًا في العقد الماضي.. والتي أفادت أنّ "ما من باحث في علم الاجتماع كان باستطاعته أن يتكهن بما حدث".

لذا وصف "بيات" ما جرى بـ"ربيع المفاجأة". ولكنه يستدرك بقوله بأنّ "كل الثورات مفاجئة". بيد أنّ الواقع يشير إلى أنّ أولي الأمر "لم يستطيعوا أن يروا الكثير من الفعالية في نشاطات الناس العاديين. وإن رأوا فإنهم اعتبروا النشاط الشعبي عاملًا قليل الأهمية، لا يزيد على عمليات احتجاج غاضبة متفرّقة..".

بلغة أخرى، ففيما كان يبدو أنّ الأنظمة تحكم المجتمع بيد من حديد، "كانت قطاعات واسعة من المواطنين العرب، قد أنشأت، في ظل نظام الحكم ذاته، حقائقها الخاصة". وحين، يواصل "بيات" تحليله، "انضمت هذه القطاعات - التي باتت قوة حقيقية في الواقع - بجماهيرها الواسعة إلى المعارضة السياسية، حدث اختراق ثوري".

الليبرالية الجديدة ساهمت على مدى عقود في حصار العقد الاجتماعي التاريخي بين الدول وشعوبها

مثّل الاختراق الثوري ذروة ردة فعل الطبقة الخطيرة الغاضبة جراء "تقليص العدالة الاجتماعية" من جهة. ومن جهة أخرى، رفض التكيّف مع الخيار النيوليبرالي وتداعياته القاسية والمؤلمة على حياة العوام أو جموع المواطنين على المستوى القاعدي. وكيف لا يتم رفض التكيّف مع الليبرالية الجديدة وقد ساهمت على مدى عقود في حصار العقد الاجتماعي التاريخي بين الدول وشعوبها ما نتج عنه إعمال سياسة التخلي التدريجي عن تأمين الفرص المتكافئة في شتى المجالات: التعليم والصحة والعمل، بين القلة الثرية - التي تملك أكثر بكثير من احتياجاتها - وبين الأغلبية من الناس العاديين/العوام/جموع المواطنين التي تعاني الفقر، بدرجة أو أخرى.

وربما يكون السؤال المشروع والمنطقي لماذا لم تستطع "الطبقة الخطرة" العريضة أن تحقق ما تطلعت إليه من توفير حياة كريمة تقوم على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وما هي ملامح زمن ما بعد الثورات أو الربيع العربي... نجيب من واقع رؤية تحليلية طازجة صاغها "آصف بيات" الذي تابع رصده ليوميات "الحراكات" العربية على مدى عقد من الزمان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن