وجهات نظر

مواطن جنوب العالم و"معضلة" انتقال السلطة

يتشارك العرب والأفارقة تاريخيًا في مسألة انتقال السلطة السياسية التي تحوّلت إلى إشكالية معقدة استغرقت عمر دولة الاستقلال الوطني، أي ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، حيث لم تنتقل السلطة في هذا الجزء من جنوب العالم إلا عبر وسائل معقدة يحوز فيها الدم والاغتيالات السياسية نسبة مقدرة، كما تحوز فيها الانقلابات العسكرية نسبة أعلى، فيما تم اللجوء إلى آلية تغيير الدستور خصوصًا في أفريقيا لضمان امتداد السلطة لأكثر من فترتين للمستوى الرئاسي.

مواطن جنوب العالم و

في هذا السياق؛ يبدو أنّ تفاصيل مشهد انتقال السلطة بات مقلقًا ومؤشرًا على حالات من عدم الاستقرار وربما الفوضى والاضطرابات، ذلك أنّ الوسائل غير الطبيعية لانتقال السلطة غالبًا ما يكون لها انعكاسات مباشرة على مؤسسات الدول وكذلك اقتصاداتها ويكون لذلك تأثير سلبي على القيام بوظائف التنمية في كافة المجالات، وهو ما يجعل حياة الناس العادية تزداد تدهورًا يومًا بعد يوم.

الربع الأول من عام ٢٠٢٤، يتفاعل مع عدد من مشاهد انتقال السلطة في أفريقيا بوسائل متنوعة وبمؤشرات متباينة، ذلك أنّ مشهد انتقال السلطة في مصر مرشّح لنجاح رغم أنه مؤسس على تعديل دستوري أتاح فترة رئاسية ثالثة، واستند على مشروع تنموي بمنظور مختلَف عليه، ويرجح البعض أنه قد يحدث تغييرًا في هياكل سياسياته، ومن هنا قد يكون قابلًا لتحقيق استقرار، يرى البعض أنه كي يكون استقرارًا له صفة الاستمرارية، يجب أن تجري نقلات جذرية في التوجهات الحاكمة منذ عقد تقريبًا.

الاضطراب السياسي في تشاد له إنعكاس سلبي على الأوضاع في السودان

أما النموذج التشادي، فإنّ انتقال السلطة فيه على العكس، مرشّح لقلائل وعدم استقرار داخلي وربما يمتد إقليميًا، ذلك أنّ تشاد هي نموذج محقق لأزمة مزدوجة في كل من أنجمينا عاصمتها وكذلك السودان، إذ تم التخلّص من المعارض الرئيس لوريث السلطة عبر عملية اغتيال، وكذلك تم النكوص عن وعد الرئيس الانتقالي بعدم ترشحه للانتخابات، حيث شهدت تشاد اغتيال رئيسها السابق على يد المعارضة عام ٢٠٢١ وورث الحكم ابنه محمد إدريس ديبي أنتو، وقد أعلن الرئيس الانتقالي – الابن - حينذاك أنه لن يترشح للرئاسة، ولكنه تقدّم مؤخرًا بالفعل لحيازة المقعد الرئاسي، وذلك بعد عمليتيّ اغتيال؛ الأولى: كانت لرئيس المحكمة الدستورية العليا في أنجمينا حيث تم اغتيال المرشح المعارض للرئيس الانتقالي يايا ديلو دجيرو، رئيس الحزب الاشتراكي "بلا حدود" بعد محاولتيّ اغتيال على خلفية ترشّحه ضد أسرة ديبي في الانتخابات الرئاسية نجا من إحداها عام ٢٠٢٣، ولكن قُتل فيها ابنه ووالدته، بينما نجحت الثانية في مطلع مارس ٢٠٢٤ وذلك بعد أن اعتصم بمقر حزبه نتيجة اتهامه باغتيال رئيس المحكمة الدستورية العليا في بلاده.

المشكل الرئيس حاليًا أنّ الاضطراب السياسي في تشاد له إنعكاس سلبي على الأوضاع في السودان، بطبيعة التداخل العضوي في التفاعلات بين البلدين، نتيجة التداخل القبلي، وذلك إلى حد وجود فصائل تشادية معارضة بالسودان، ووجود دعم لـ"قوات الدعم السريع" المناوئة للجيش السوداني من تشاد، وهو الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على توازنات القوى في الصراع السوداني الراهن، ويجعل السودان مفتوحًا على سيناريو استمرار الصراع ليتحوّل إلى حرب أهلية فعلية.

الأوضاع في السنغال بغرب أفريقيا ليست هي الأفضل، فالرئيس ماكي سال قد وقع مرسومًا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بشأن عقد الانتخابات مطلع فبراير/شباط المنقضي، لكنه أصدر مرسومًا آخر بالإلغاء عشية بدء المارثوان الانتخابي بين مرشحين كان أهمَّهم مسجونٌ بتهم يتم وصفها بالملفقة وهو عثمان سونكو الذي قاد تحالفًا من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني طوال عام ٢٠٢٣ أفضى إلى اضطرار الرئيس ماكي سال لإلغاء ترشّحه الغير دستوري لفترة ثالثة من الحكم، وفي المقابل وُضع سونكو في السجن باتهامات لها طابع أخلاقي، تقول بعض الأطراف المحلية في السنغال إنها لأسباب سياسية.

الانقلابات العسكرية أشهر طرق التداول غير السلمي للسلطة وتشهد تواترًا كبيرًا في غرب أفريقيا

حاليًا الرئيس السنغالي ماكي سال يحاول منع فرص التدهور السياسي الداخلي خصوصًا في الأوساط الشبابية، وذلك بالإعلان عن "حوار وطني" مفتوح، بتقدير موقف أنّ الاحتقان السياسي الراهن يمكن أن يتم تحجيمه بهذا الحوار، لكن التجارب السابقة في أفريقيا تشير إلى أنّ آلية الحوار الوطني المطروح من جانب السلطات الحاكمة تستهدف بالأساس استمرارها في الحكم، وتفشل غالبًا في تطويق الغليان السياسي ومنع التدهور الاقتصادي، فحوار الوثبة السوداني على سبيل المثال لا الحصر، والذي تم الإعلان عنه مطلع عام ٢٠١٤ في محاولة لتطويق أثر احتجاجات سبتمبر/أيلول ٢٠١٣، لم ينجح في منع تصاعد الاحتقان السياسي والإقتصادي بل زاد من وتيرته في ضوء الأداء المراوغ لنظام البشير بما أفضى في النهاية إلى ثورة شعبية في ٢٠١٨ ثم إلى حرب شبه أهلية في ٢٠٢٣.

يبقى أنّ الانقلابات العسكرية أشهر طرق التداول غير السلمي للسلطة، وهي حالة تشهد حاليًا تواترًا كبيرًا في منطقة غرب أفريقيا وتوصف بربيع الانقلابات، حيث جرى في الثلاث سنوات الأخيرة أكثر من انقلاب في كل من بوركينا فاسو ومالي، بينما لدينا رئيس محتجز في النيجر إثر انقلاب عسكري تكرر في غينيا أيضًا.

المعضلة؛ أنّ المجهودات الدولية والإقليمية، وكذلك الأدبيات المنبثقة عنها لم تنجح حتى الآن في توطين آلية للتداول السلمي للسلطة بغالبية دول جنوب العالم، كما لم تنجح هياكل المجتمع المدني والأحزاب في هذه الدول أيضًا عبر نضالاتها المتواصلة في توطينها، فحالة السنغال مثلًا تشكّل صدمة وسابقة في نموذج من دولة كان يتم الإشارة لها مع غانا بإعجاب فيما يتعلق بمدى الالتزام بمسألة التداول السلمي للسلطة.

إجمالًا؛ نحن إزاء عالم يتدهور ويتفكك في مجالات شتى، وربما هذا ما يشكل أعباء كبيرة على المواطن العادي خصوصًا في جنوب هذا العالم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن