الأمن الغذائي والمائي

اكتمال السدّ الإثيوبي وتصريحات ترامب!

عاد الاهتمام بسدّ النهضة الإثيوبي بعد إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي انتهاء العمل تمامًا بالسدّ، وأنّه سيتمّ الافتتاح الرسمي في سبتمبر/أيلول المقبل. تزامن مع هذا التصريح، خروج الرئيس الأميركي بتصريحَيْن متتاليَيْن؛ الأول عن تورّط أميركا في تمويل السدّ على الرَّغم من علمها بأنّه سيتسبّب في نقص جريان المياه في نهر النيل وتأثُّر مصر والسودان، وأنّ هذا الأمر خاطئ وغير مبرّرٍ من الرئاسة الأميركية السابقة. ولم يوضح ترامب ما إذا كان هذا التمويل قد تمّ عن طريق دولٍ أخرى حليفة، أو عن طريق المعونات المقدّمة لإثيوبيا لأغراضٍ أخرى، ثم يتمّ التغافل عن تحويلها لتمويل السدّ. أعقب هذا الأمر في الأسبوع الثاني من يوليو/تموز تصريح جديد يؤكّد على نيّة أميركا حلّ مشكلة السدّ الإثيوبي، لأنّ مصر تعتمد بشكلٍ أساسيّ على مياه نهر النيل.

اكتمال السدّ الإثيوبي وتصريحات ترامب!

هذا الأمر أثار الشكوك في الشارع المصري بأنّ التصريح الأخير للرئيس الأميركي ربّما يكون في نطاق الضغط على مصر للسماح بتهجير الفلسطينيين، مقابل أن تحلّ أميركا مشكلة السدّ وتضمن لمصر حقّها التاريخي المُكتسب لما تعوّدت وصوله إليها من مياه النهر، بخاصة في ظلّ الدعم المُطلق من الرئيس ترامب لحليفته إٍسرائيل على الرَّغم ممّا ترتكبه من وحشيةٍ بحقّ الأطفال والنساء والمدنيين.

بدأت التساؤلات تُناقش جدوى هذا التدخل الأميركي المتأخّر، بعد انتهاء بناء السدّ تمامًا ودنوّ الافتتاح، لأنّ المرحلة الأصعب على مصر، وهي تخزين 74.5 مليار مترٍ مكعبٍ من المياه كانت في السابق تذهب إلى مصر والسودان، قد انتهت.

كانت تتمنّى إثيوبيا إلحاق الضرر بمصر لو جاءت سنوات الملء ضمن السنوات العجاف

كان القدر رحيمًا بمصر، ومن دون تخطيطٍ أو حكمةٍ من إثيوبيا، بأن جاء الفيضان غزيرًا ضمن السنوات السمان طوال سنوات الملء الستّ. إذ تبدأ إثيوبيا برفع حوائط السدّ خلال شهر أبريل/نيسان من كلّ عام بقدر ما تزمع تخزينه، وكان لا بدّ من الانتهاء من هذه الصبّات الإسمنتيّة في الأسبوع الأخير من شهر يونيو/حزيران، قبل بدء موسم الأمطار الغزيرة التي تعوق عمليات الصبّ وقبل بدء الفيضان في يوليو/تموز. ما يعني أنّ إثيوبيا حدّدت حجم التخزين قبل أن تعلم إنْ كان الفيضان سيكون غزيرًا سمينًا أم شحيحًا عجافًا، وأنّها كانت ستملأ تحت كلّ الظروف حتى لو كانت عجافًا. ولكنّ القدر الرحيم بمصر هو الذي جعل سنوات الملء من السنوات السمان، فأخذت إثيوبيا مياه التخزين من الزيادة في مياه الفيضان، فوق متوسط التدفّق السنوي للنيل الأزرق البالغ 50 مليار مترٍ مكعبٍ سنويًّا، والذي يصل مع الفيضان إلى 75 مليارًا. وبالتالي لم تتأثّر مصر بسنوات الملء الستّ والتي كانت تخشاها تمامًا وكانت يمكن أن تتسبّب بوبالٍ على مصر وتُفرغ بحيرة السدّ العالي من مخزونها. وبالتالي، فإنّ تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي بأنّ مصر لم تتأثّر ببناء السدّ كما وعد، غير صحيحة، وأنّ الأمر لم يكن في حسابات إثيوبيا، بل كانت تتمنّى إلحاق الضرر بمصر، لو جاءت سنوات الملء ضمن السنوات العجاف.

التساؤل الآن حول جدوى تدخل الرئيس الأميركي خصوصًا إنْ كان خالصًا لدعم حقوق مصر فقط، من دون ربطها بأمرٍ آخر. والحقيقة أنه ما زالت هناك أمور كثيرة عالقة لضمان وصول المياه إلى مصر بالكميات نفسها كما كانت قبل بناء السدّ الإثيوبي. فقد قدّمت إثيوبيا إلى مصر، أثناء جولات التفاوض، حساباتٍ تشير إلى أنّه بتشغيل الستة عشر توربينًا التي تولّد الكهرباء من السدّ (قبل اختزالها إلى ثلاثة عشر فقط) بالمعدّلات العالمية، فإنّ ذلك يضمن وصول 50 مليار مترٍ مكعبٍ من المياه إلى مصر، وهي كمية المياه نفسها التي كان يشارك بها النيل الأزرق في مياه النيل الموحّد قبل بناء السدّ.

ما يحلّ المشكلة ويُرضي مصر والسودان هو أن تتعهد إثيوبيا كتابةً بأن تضمن خروج حدّ أدنى من المياه من السدّ

ولكنّ إثيوبيا رفضت أن توقّع على ذلك كتابةً، أو أن تضمن لمصر والسودان تشغيل جميع التوربينات لضمان وصول هذا القدر من المياه إلى مصر والسودان، وليس طبقًا لما تتعاقد على تصديره من الكهرباء إلى الدول المجاورة بخاصة السودان وجنوب السودان، أو أن تتكاسل في بناء شبكات نقل الكهرباء إلى الداخل الإثيوبي، وبالتالي يمكن أن يؤدّي الأمر إلى تشغيل عددٍ قليلٍ من التوربينات وليس كلّها، بما يؤثّر على تدفّق المياه إلى مصر حيث لا سبيل لخروج المياه من السدّ إلّا عبر فتحات التوربينات دون غيرها، ثم بوّابات مفيض السدّ خلال فترة الفيضان، وبوابتَيْن في الأسفل أثناء الفيضان الشحيح، وبما يمكن أن يفضي إلى أن تضخّ نصف كميات المياه فقط إلى مصر والسودان، إذا رغبت في ذلك وهو الأمر الذي تسعى إليه إثيوبيا من خلال التحكّم الكامل في مياه أكبر رافد من روافد النهر، والذي يشارك بما يتراوح ما بين 59% و64% من إجماليّ مياه النيل.

الأمر الأهمّ هو المرتبط بالسنوات العجاف المقبلة، التي تتكرّر سبع مرات كل 20 عامًا، فطبقًا للتقديرات الإثيوبية فإنّ تشغيل جميع توربينات السدّ سيؤدّي إلى سحب 50 مليار مترٍ مكعبٍ من مخزون مياه بحيرة السدّ، بما يستوجب تعويضها في الفيضان التالي. فإذا ما جاء الفيضان شحيحًا فإنّ مياه النيل الأزرق تنخفض إلى 30 مليار مترٍ مكعبٍ فقط بدلًا من خمسين مليارًا، وبالتالي فإنّها لن تكفي لتعويض ما تمّ استهلاكه لتوليد الكهرباء في موسم الفيضان السابق، أي المطلوب سحب 50 مليار متر مكعب للكهرباء وتعويضها بنحو 30 مليارًا فقط. ولذلك طلبت مصر من إثيوبيا بأن تكتفي بتوليد 80% فقط من المستهدَف من الكهرباء خلال سنوات الجفاف والفيضان الشحيح، وأن تكون الأولوية لضخّ هذه المياه للشعوب العطشى في مصر والسودان، والبالغة 160 مليون نسمة، حتّى لا تتحمّل مصر وحدها نتائج السنوات العجاف، بل يتحمّلها الجميع، ولكن إثيوبيا لم تستجب أيضًا لهذا الأمر ولم توافق عليه.

مصر وقّعت ثم تفاوضت وكان ينبغي أن تتفاوض ثم توقّع

الخلاصة أنّ ما يحلّ المشكلة ويُرضي مصر والسودان هو أن تتعهد إثيوبيا كتابةً بأن تضمن خروج حدّ أدنى من المياه من السدّ الإثيوبي، يكون حوالى 50 مليار مترٍ مكعبٍ سنويًا ولا يقلّ عن ذلك، ثم بعد هذا الضمان فلتُخزّن ما تشاء، وتبني ما تشاء من السدود، من دون أن تُدخلنا مُجدّدًا في نظام الملء والتشغيل، لأنّها بذلك تضمن وصول حدٍّ أدنى من مياه النيل الأزرق إلى مصر والسودان كما كان الأمر قبل بناء السدّ، أو يقلّ قليلًا وليس بشكلٍ جائر.

مشكلة مصر في سدّ النهضة أنّها وقّعت ثم تفاوضت، والصحيح أنّها كان ينبغي أن تتفاوض ثم توقّع، وكانت إثيوبيا على استعداد للموافقة على جميع طلبات مصر، من أجل أن يتحوّل سدّها من سدٍّ خلافيّ عدوانيّ إلى سدٍّ توافقيّ، بما يعني الافراج عن التمويل المالي المتوقّف للسدّ من الصين وكوريا وإيطاليا وربما البنك الدولي، بسبب رفض دولتَي المصبّ.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن